العلاقات الإيرانية-اليمنية

من المصالحة إلى الخديعة والصدام المباشر

كانت اليمن دائمًا محط أطماع التوسعية الفارسية منذ العصر القديم، وطريقها التقليدي في محاولة اختراق الجزيرة العربية، التي لم يستطع الفرس على مر تاريخهم اختراقها أو السيطرة عليها، ويمكن النظر إلى هذا الأمر من خلال ما طرحه البعض حول “النزوع التاريخي” لفارس غربًا للسيطرة على شرق المتوسط والبحر الأحمر ومضيق باب المندب، في إطار الصراع على إحكام السيطرة على طرق التجارة الدولية أيضًا.

وفي العصر الحديث يحدد البعض الإستراتيجية الإيرانية تجاه المنطقة العربية بشكلٍ عام، ومنطقة الخليج العربي واليمن على وجه الخصوص على النحو التالي: “ظل الساسة الإيرانيون يبحثون عن بؤر توتر للتدخل للسيطرة على الموقع والثروة، بحجة أنهم المُخَلِّصون أو المُنقِذون… وتوارث الساسة الإيرانيون شعورًا مفاده أن هناك فراغًا إستراتيجيًّا- عقائديًّا لا بُد من ملئه”.

ما يهمنا هنا هو تناول الدور الإيراني في اليمن من خلال رصد وتتبع العلاقات الإيرانية- اليمنية، لا سيما منذ إعلان تأسيس الجمهورية اليمنية عام (1990)، وهنا لا بُد من العودة قليلًا إلى الوراء إلى فترة الحرب العراقية الإيرانية، هذه الحرب التي اندلعت عام (1980)، واستمرت إلى (1988)؛ إذ أيَّدت اليمن الشمالية العراق في تلك الحرب، ووقفت معها من منظور عروبي، وعلى أساس أن العراق هو البوابة الشرقية للمنطقة العربية، ولا بُد من حمايتها، وأثار الموقف اليمني حفيظة طهران بشدة.

لكن بعد نجاح الوحدة اليمنية بين الشمال والجنوب، وإعلان قيام الجمهورية اليمنية، بدأت طهران صفحة جديدة مع صنعاء، من خلال محاولة نسيان الموقف السابق المؤيد للعراق في الحرب، ويرى البعض أن هذه المرحلة الجديدة امتدت من الفترة من عام (1990) إلى عام (1992)، وتمثَّلت أهم ملامح هذه المرحلة في إنهاء ملف الأسرى اليمنيين المحتجزين لدى إيران من جراء الحرب العراقية الإيرانية، كما بدأ العمل على المزيد من تطبيع العلاقات بين البلدين، من خلال تشكيل لجنة وزارية مشتركة تعمل على التعاون الاقتصادي بين البلدين، الذي كان في حقيقة أمره يصب في صالح إيران أكثر من اليمن، وتم تَبادُل زيارات الوفود بين طهران واليمن، كما حملت هذه الوفود رسائل متبادلة بين الرئيس الإيراني هاشمي رفسنجاني، والرئيس اليمني عليّ عبد الله صالح، واستندت هذه العلاقات في هذه المرحلة على مبدأَيِ المصالحة والمصلحة المشتركة.

وسرعان ما تغيَّرت هذه السياسة في الفترة التالية، أي من عام (1992) حتى (1994)، ويرجع ذلك التغير إلى الزيارة المفاجئة والغريبة والاستفزازية التي قام بها الرئيس رفسنجاني للجزر الإماراتية التي تم احتلالها من قِبَل إيران في عام (1971)، وكان الهدف الحقيقي من وراء هذه الزيارة تأكيد احتلال الجزر لإيران، وإضفاء المزيد من طابع الفرسنة على هذه الجزر، مما أثار حفيظة العديد من الدول العربية واحتجاجها على ذلك الأمر، وبالطبع كانت اليمن في طليعة هذه الدول، وترتَّب على ذلك توقف أعمال اللجنة الوزارية المشتركة بين إيران واليمن، ودخلت العلاقات الإيرانية- اليمنية في حالة من الجمود، وعلى الرغم من حدوث زيارات متبادلة لوزيري الخارجية في كلا البلدين في عام (1994)، إلا أن هذه الزيارات كانت ذات طابع دبلوماسي بارد، ولم تساعد على عودة الدفء إلى علاقات البلدين.

أما المرحلة التالية فقد امتدَّت من عام (1996) إلى عام (2003)، وبدأت بعودة اللجان الوزارية المشتركة، من خلال عقد اللجنة الاقتصادية المشتركة أعمالها في صنعاء خلال الفترة من 16 إلى 18 يناير (1996)، كما قام الرئيس اليمني علي عبد الله صالح بزيارة إلى طهران في عام (2000)، وتم طرح عقد اتفاقية أمنية مشتركة بين البلدين، مع النص على عدم التدخل في الشؤون الداخلية، ولم يتم التصديق على هذه الاتفاقية إلا في عام (2003)، عندما قام الرئيس الإيراني محمد خاتمي بزيارة اليمن، وتميَّزت هذه الفترة بالسياسة المعتدلة لخاتمي، وللسياسة الخارجية الإيرانية بشكلٍ عام، ومع ذلك لم تَخْلُ هذه المرحلة من انتقاد اليمن لسياسات إيران تجاه الجزر الإماراتية المحتلة.

أما المرحلة التالية في العلاقات الإيرانية اليمنية فتبدأ من عام (2004)، وتمتد إلى عام (2013)، التي اتَّسَمت بزوال دفء العلاقات، والدخول في مرحلة الأزمة، ويرجع ذلك إلى أن إيران- كعادتها- تخلَّت عن تعهُّداتها السابقة بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لليمن، وعادت إلى سياستها القديمة الثابتة وأطماعها في البحر الأحمر وباب المندب، والاستفادة من بؤر التوتر في المنطقة، واللعب بالمسألة العقائدية في أمور السياسة.

ويؤكد رضوان السيد على حدوث التغيُّر الكبير في السياسة الإيرانية في هذه الفترة، بوصول مَن أطلق عليهم “المحافظين الجدد” إلى سدة الحكم في إيران، مثلما وصل المحافظون الجدد إلى الحكم في أمريكا، من هنا لجأت إيران إلى إيقاظ الخلايا النائمة والأخرى الداعمة لها في العالم العربي.

وتمثَّل ذلك في الدعم الكبير الذي قدَّمَته إيران لجماعة الحوثي في اليمن، هذه الجماعة التي تنتمي في الأصل إلى المذهب الزيدي المنتشر في شمال اليمن، لكن إيران استطاعت استمالة زعماء هذه الجماعة إلى المذهب الإيراني الاثنى عشري، من خلال استقبالهم في قُم الإيرانية بحجة التعليم الديني.

وكانت حركة الحوثي قد نشأت عام (1986) في صعدة في اليمن، ورويدًا رويدًا دخلت في خلاف حاد مع النظام الجمهوري في صنعاء؛ إذ نظرت حركة الحوثي إلى هذا النظام على أنه وليد “الانقلاب” الذي حدث في الستينيات على نظام “حكم الإمام”، وأنه لا بُد من العودة إلى حكم الإمام مرة أخرى، وهكذا توافقت رؤية الحوثيين في ضرورة “حكم الإمام” مع نظرية “ولاية الفقيه” التي يقوم عليها النظام الإيراني.

ودخلت حركة الحوثي في العديد من الحروب ضد النظام الجمهوري في صنعاء في الفترة من (2004) إلى (2010)، وتكاد تُجمع أغلب المصادر على أنه لولا الدعم الإيراني المادي والعسكري لجماعة الحوثي طيلة هذه الفترة ما استطاعت هذه الجماعة الوقوف أمام الجيش اليمني، ومع ذلك دأبت طهران على إنكار توجيهها الدعم المباشر للحوثي في حربه ضد صنعاء، وانعكس ذلك على طبيعة العلاقات الإيرانية-اليمنية في هذه الفترة، ولم تكتفِ إيران بدعمها لحركة الحوثي في شمال اليمن، بل ذهبت إلى محاولة تأكيد وجودها في جنوب اليمن، من خلال محاولة إقامة علاقات مع أحد فصائل الحراك الجنوبي، وهو علي سالم البيض، الذي يقيم في بيروت، وعلى اتصال دائم بحزب الله، ولعب البيض دورًا مهمًّا في نقل بعض الشباب اليمني إلى طهران للتدريب العسكري.

هكذا وصلت العلاقات اليمنية الإيرانية إلى حد القطيعة، لا سيما بعد تأييد طهران المباشر لهجوم الحوثيين على صنعاء في عام (2014)، والاستيلاء عليها، وتواصل إيران مساندتها لنظام الحوثي في صنعاء، وتتمادى في عدم الاعتراف بالحكومة اليمنية التي تمثل الشرعية، وتُقدِم إيران على خطوة غير مسبوقة في مجال العلاقات الدولية؛ إذ تقبل طهران أوراق اعتماد أحد زعماء الحوثيين سفيرًا لليمن في إيران، وأثار ذلك احتجاج الحكومة اليمنية الشرعية، ووجهت الاتهام إلى إيران بخرق القانون الدولي؛ لأن قرارات الأمم المتحدة لا تعترف باحتلال الحوثي لصنعاء، بل وتعترف بالحكومة اليمنية الشرعية ممثلًا وحيدًا للشعب اليمني، هكذا كانت إيران هي الدولة الوحيدة التي تعترف بالنظام الحوثي المغتصب للسلطة، وهكذا وصلت العلاقات اليمنية-الإيرانية إلى مرحلة الصدام المباشر.

إيران الدولة الوحيدة التي تعترف بنظام الحوثي في اليمن.

  1. جمال واكيم، أوراسيا والغرب والهيمنة على الشرق الأوسط (بيروت: دار أبعاد، 2016).

 

  1. جهاد أحمد، العلاقات اليمنية الإيرانية وأثرها في أمن الخليج العربي، مستقبل الشرق للدراسات والبحوث، 7 فبراير (2014).

 

  1. حازم الجنابي، “الإستراتيجية الإيرانية تجاه الدول العربية”، مجلة المنارة (أكاديميا العربية)، مج18، ع2 (2012).

 

  1. خالد القاسمي، الجزر الثلاث بين السيادة العربية والاحتلال الإيراني (الإسكندرية: دار الكتب والدراسات العربية، 1997).

 

  1. رضوان السيد، العرب والإيرانيون والعلاقات العربية-الإيرانية في الزمن الحاضر (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2014).

 

  1. دينا عبده، الاتجاهات العامة للمصالح الإقليمية لإيران في المنطقة العربية، دراسة مقارنة سوريا واليمن 2011- 2016، المركز الديمقراطي العربي.

 

  1. سامويل راماني، الرؤية الإيرانية لمرحلة ما بعد النزاع في اليمن، مؤسسة كارنيجي، 11 ديسمبر (2019).

الاختراق الإيراني لليمن:

استراتيجية السيطرة على المضائق: هرمز-باب المندب

شكَّل الاختراق الإيراني لليمن آخر محطات التغلغل الفارسي في المنطقة العربية (في المرحلة الحالية على الأقل)، وأحد الأهداف الإستراتيجية الإيرانية التي تم تسطيرها من أجل وضع المنطقة العربية بين فكَّيِ الكماشة الإيرانية، خاصة وأن إخضاع اليمن يمكِّن الملالي من التحكم في مضيق باب المندب الحيوي، بعدما وضعوا أيديهم على مضيق هرمز الإستراتيجي.

لقد شكَّل اليمن مصدر جذب سياسي واقتصادي ومذهبي للملالي، بالنظر إلى دوره المحوري في الملاحة البحرية وإسقاطات ذلك على الدور السياسي لطهران دون إغفال البعد المذهبي المرتبط بالتقاطعات الزيدية الاثنى عشرية وأيضًا بـ”الثورة السفيانية” “التي روَّج لها علي الكوراني العاملي في كتابه (عصر الظهور)، ومضمونه يتحدث عن ثورة ستكون في اليمن، ووصفها بأنها “أهدى الرايات في عصر الظهور على الإطلاق”… وأن عاصمتها صنعاء.

شكَّل اليمن مصدر جذب سياسي واقتصادي ومذهبي للملالي.

وإذا كانت الأطماع الإيرانية في حقيقتها أطماعًا سياسية-عرقية، فقد تم تغليفها بغلاف ديني حتى يتم قبولها من طرف مَن غفلوا حقيقة الأهداف الفارسية الباطنية، وهنا نجد أحد ملاقط إيران في المنطقة -وهو حسن نصر الله- يؤكِّد هذا الادِّعاء بالقول: “ما تقوم به إيران في منطقتنا إنما تؤدي به واجبها الإلهي، وهي منسجمة مع عقيدتها ودينها”.

لقد التقت الأهواء الدينية مع الأطماع التاريخية والأهداف الإستراتيجية لتجعل من اليمن هدفًا ثابتًا في السياسة الخارجية الإيرانية، خاصة وأن الإقليم سبق وأن خضع للاحتلال الفارسي قبل أن ينجح الإسلام في تحرير هذا القطر العربي من القبضة الفارسية، والواضح أن المناورات الإيرانية لم تَعُد حبيسة الكواليس والاتصالات السرية، وإنما أصبحت المطالب بإخضاع اليمن “علنية” ومباشرة، وهو ما جعل الرئيس اليمني عبد ربه منصور يتهم إيران، في أكتوبر (2012)، بالسعي للسيطرة على مضيق باب المندب الإستراتيجي، كما دعا المجتمع الدولي إلى ضرورة التحرك لوقف ما وصفَه “بالمخططات الإيرانية الوشيكة”.

إن البيئة الإقليمية المعقدة و”المتوجسة” تجعل من التواجد الإيراني في اليمن تهديدًا حقيقيًّا للخليج العربي، ولعل هذه التهديدات هي التي جعلت دول الخليج العربي تتابع وترصد وتقف للتغلغل المتزايد لإيران في اليمن الذي اتخذ أشكالًا متعددة، منها: النشاط الاستخباري، حيث إن هناك عددًا من الإيرانيين في اليمن يعملون لخدمة مصالحهم السياسية من خلال مراكز طبية متواضعة، ومن خلال فتح الباب لتسهيلات تجارية لشخصيات يمنية متعاطفة مع طهران، كذلك دعم الحركة الحوثية الإرهابية المتمردة في شمال اليمن، بالإضافة إلى الانفتاح على المكون الإخواني المتماهي مع الأطروحة الإيرانية منذ ثلاثينيات القرن الماضي.

ويمكن القول بأن عمليات التغلغل المتكررة قد أرخت بتعقيداتها على المشهد السياسي اليمني، وخلقت توجُّهات إيديولوجية متنافرة أخذ بعضها بُعدًا اشتراكيًّا والبعض الآخر يدَّعي تمثيل المكون السُّنِّي في اليمن، بالإضافة إلى المكون الزيدي الذي انصهر جزء كبير منه مع المشروع الإيراني في المنطقة، وهو ما ينذر بانفراط عقد اليمن الموحَّد وتحوُّله إلى دويلات مذهبية، خاصة وأن هذا المآل يمكن أن يقبل به التنظيم الإخواني في اليمن، كذلك التنظيم الحوثي، بالإضافة إلى التيار السياسي الذي ينشط في الجنوب.

ولعل ما يؤرق في الأمر هي الارتدادات الأمنية والسياسية وحتى الإنسانية للأزمة اليمنية على باقي دول الخليج العربي، والتي قد تتخذ أشكالًا متعددة، منها:

  • التهديد الأمني والعسكري للمنطقة، مع ما يرافق ذلك من تكلفة ومجهود عسكري.
  • زرع خلايا إيرانية نائمة في المنطقة، تنطلق من اليمن، وتتحرك بنوع من الأريحية في ظل مراعاة دول الجوار للوضع الإنساني في اليمن.
  • احتمال نزوح عشرات الآلاف من اليمنيين إلى حدود خليجية.
  • إمكانية تشكُّل خلايا إرهابية على المناطق الحدودية اليمنية الهشة أمنيًّا، التي تتقاطع أهدافها مع إيران في محاولة ضرب المنطقة.

إستراتيجية المواجهة:

إن البيئة الأمنية المعقدة في اليمن تحتاج إلى التفكير في إعادة صياغة رسم إستراتيجي يتوافق مع الإكراهات الأمنية والعسكرية، وهنا نرى ضرورة تحديد نقاط قوة وضعف الخصم واستهداف مراكز ثقل العدو التي تتلخص تقديريًّا في أربعة أهداف رئيسة: ضرب مراكز ثقل التغلغل العسكري المعادي الموالي لقوى خارجية، ودعم استقلال إقليم الأحواز لبناء جدار صد إستراتيجي، وحرمان إيران من أهم مصادر تمويل المجهود العسكري، كذلك الاشتغال على الواجهة الإعلامية، من خلال توعية الشعب الإيراني بحجم الإنهاك الداخلي الذي تسبَّبَت فيه السياسات التوسعية الفارسية في المنطقة، أيضًا إعادة التفكير في نسج تحالفات إقليمية جديدة تتقاطع في اعتبار إيران “حاليًّا” أخطر مهدد للأمن القومي للدول العربية عمومًا، ودول الخليج العربي بشكل خاص.  

  1. جمال واكيم، أوراسيا والغرب والهيمنة على الشرق الأوسط (بيروت: دار أبعاد، 2016).

 

  1. جهاد عبد الرحمن أحمد، “العلاقات اليمنية-الإيرانية وأثرها على أمن الخليج العربي“، مقالة نُشِرَت على موقع مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث.

 

  1. رضوان السيد، العرب والإيرانيون والعلاقات العربية- الإيرانية في الزمن الحاضر (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2014).

 

  1. سامويل راماني، الرؤية الإيرانية لمرحلة ما بعد النزاع في اليمن، مؤسسة كارنيجي، 11 ديسمبر (2019).

 

  1. كارل فون كلاوزفيتز، عن الحرب، ترجمة: سليم الإمامي (بيروت: المؤسسة العربية، 1997).
تشغيل الفيديو

إيران تغلغلت بالقوة الناعمة في بعض الدول العربية

بنظرة تاريخية فاحصة ومُوغِلة في القِدَم يدرك القارئ أن بداية التواصل بين اليمن وبلاد فارس كان منذ الاحتلال الحبشي الأول لليمن سنة (335م)، والثاني سنة (525م)، إذ إنه كان أحد اتصال الفرس باليمن، حين كان الاتصال السياسي بين اليمن وبلاد فارس من خلال استنجاد الملك اليمني (سيف بن ذي يزن الحميري) بإمبراطور فارس لطرد الأحباش من بلاده، وزاد التواصل بعد ظهور الإسلام؛ إذ ألغت عقيدة الإسلام المسافات والحدود، وولدت الاحتكاك، والتبادل والتعاون بين الجانبين (آنذاك).

وأما في العصر الحديث فالعامل التاريخي أحد عوامل صياغة السياسة الخارجية، ورسم السلوك السياسي لبلد ما تجاه بلد آخر أو منطقة جوار معينة، أما في الحالة الإيرانية الفارسية فليس من المبالغة القول بأن التاريخ هو صاحب الأثر الأقوى، إن لم يكن هو المسؤول الوحيد عن طبيعة السلوك الإيراني تجاه دول جوارها العربي بشكل خاص، وبقية الدول العربية بشكل عام، فمن الواضح اليوم أن الذاكرة التاريخية لصناع القرار والسياسيين الإيرانيين هي وراء السلوك الإيراني الساعي للسيطرة على المنطقة العربية، وهي سبب رفضهم تقبُّل واقع أن الجار العربي مكافئ لهم في المنطقة، فما زال الشعور بالأفضلية يتملَّك الساسة الإيرانيين، ويجعلهم يبذلون قصارى جهدهم لتصدير ثورتهم إلى دول المنطقة، فبعد نجاح الثورة الإيرانية سنة (1979م)، وقيام الخميني بتشكيل نظام الجمهورية في إيران على مبدأ “الولي الفقيه”؛ رأى بعض قادة الثورة وعلى رأسهم الولي الفقيه بأن النموذج الإيراني ممكن أن يطبَّق بنجاح في كل المنطقة، وأن مسؤولية نقل هذه الثورة إلى بقية دول المنطقة تقع على عاتق إيران، وهو ما عُرِف بمبدأ “تصدير الثورة”. والتي كان نتيجة لذلك التصريح العلني عن العمل بمبدأ تصدير الثورة، وما ترافَق معه من أعمال شغب في دول المنطقة، ودخول إيران والعراق في حرب ضروس استمرت ثماني سنوات، أنهكت كلا البلدين، ذاقت بعدها إيران مرارة عزلة خانقة، بعدها أدرك القادة الإيرانيون أن مبدأ تصدير الثورة بالشكل العلني يعود بالمشاكل على إيران، لذلك تخلَّت إيران عن المبدأ العلني لتتمكن من فتح صفحة جديدة في علاقاتها مع دول الجوار، إلا أنها استبدلت به القوة الناعمة، فمن الصعب أن تتخلى إيران عن رغبتها في أن تكون قوة إقليمية ولاعبًا أساسيًّا في المنطقة، والقوة الناعمة هنا هو إيجاد أيادٍ خفية لها في البلدان العربية، ومن خلالهم تصدِّر أفكار ثورتها البائسة.

 والحقيقة منذ قيام جمهورية الولي الفقيه والعلاقة بين اليمن وإيران تمر بمنعطفات وتحولات، فتارةً تصل إلى حد التأزم، وتارة يلوح بصيص أمل في التحسن والتطور، بسبب التدخلات المباشرة في الشؤون الداخلية لليمن، من خلال علاقاتها بالحركة الحوثية في شمال اليمن في محافظة صعدة، ودعمها اللوجستي لها، والحراك الانفصالي المسلح في جنوب اليمن، وهي ذات أبعاد إستراتيجية لنمط تلك العلاقات، مما كان لتلك العلاقات انعكاسات على الأمن القومي اليمني، وأمن منطقة الخليج العربي.

‎وقد شهدت التوجهات الإيرانية في الألفية الثالثة من القرن الواحد والعشرين تحركات واسعة النطاق في دوائر خارجية مختلفة، في إطار تصور إيران لدورها الإقليمي، أو دورها العابر للأقاليم في بعض الأحيان، وارتبطت تلك التحركات بتدخلات مباشرة في الشؤون الداخلية لبعض دول المنطقة العربية، ومن ضمنها اليمن على نحو يتجاوز ما هو مفهوم عادةً بالنسبة لخدمة المصالح القومية الإيرانية، حيث هناك أهداف لإيران أساسية ثابتة بعيدة المدى، وهناك أهداف مرحلية مرتبطة بالتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية.

وعلى رأس الأهداف الأساسية فرض الهيمنة الفارسية على المنطقة العربية، وخصوصًا اليمن ودول الخليج العربي، وتتمثل صورة الهيمنة بصورة دينية طائفية، عبر النشر الموالي لإيران، ودعم الجماعات التابعة له في المنطقة، وإثارة النعرات المذهبية والاضطرابات السياسية في تلك الدول، ولا شيء أفضل من الغطاء الديني يعطي إيران فرصة لتحقيق رغبتها، عن طريق قيادة جماعات بشرية خارج حدودها تهدِّد الاستقرار، وتكون ورقة ضغط ناجحة بيدها تستخدمها متى تشاء، لذلك حافظت إيران على علاقتها بالطوائف القريبة منها في مختلف دول المنطقة، وواحدة من هذه الطوائف الزيدية في اليمن، وبالفعل استطاعت إيران من خلالهم تأسيس نفوذ لها في اليمن، باستخدام القوة الناعمة التي تمثَّلَت بالنشاط التبشيري على طريقة الملالي في اليمن منذ الثمانينيات، ومن خلال استقطاب طلاب يمنيين للدراسة في الجامعات والحوزات في إيران ودمشق وبيروت منذ فترة الثمانينيات والتسعينيات الميلادية، إلا أنه يمكن القول: إن التحرك الإيراني في اليمن نشط كثيرًا في التسعينيات بحكم الانفتاح الذي ترافق مع قيام الوحدة اليمنية في مايو /أيار (1990)، والسماح بالتعددية السياسية وتشكيل الأحزاب، وعدم وجود رقابة على دخول الكتب والمراجع التي تحمل فكر الولي الفقيه، وقد تبنَّت إيران حسين الحوثي مؤسس الحركة الحوثية، أو ما بات يعرف اليوم بـ “أنصار الله”، ولتكون تلك الحركة الذراع الإيراني الفارسي في اليمن والمدمر لمقدراته ومكتسباته.

بعد عام (1990) ازداد النشاط الإيراني في اليمن وضوحًا ودعمًا.

  1. جهاد أحمد، العلاقات اليمنية الإيرانية وأثرها في أمن الخليج العربي، مستقبل الشرق للدراسات والبحوث، 7 فبراير (2014).

 

  1. حازم الجنابي، “الإستراتيجية الإيرانية تجاه الدول العربية”، مجلة المنارة (أكاديميا العربية)، مج18، ع2 (2012).

 

  1. دينا عبده، الاتجاهات العامة للمصالح الإقليمية لإيران في المنطقة العربية، دراسة مقارنة سوريا واليمن 2011- 2016، المركز الديمقراطي العربي.

 

  1. رضوان السيد، العرب والإيرانيون والعلاقات العربية- الإيرانية في الزمن الحاضر (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2014).

 

  1. سامويل راماني، الرؤية الإيرانية لمرحلة ما بعد النزاع في اليمن، مؤسسة كارنيجي، 11 ديسمبر (2019).

 

  1. وصفي محمد عقيل وآخر: “الاختراق السياسي الإيراني لدول الجوار العربي دراسة حالة.. العراق، البحرين، اليمن”، مجلة دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية، الجامعة الأردنية، عمَّان، ع45 (2018).