في مواجهة البربرية العثمانية

رجالٌ ونساءٌ وأطفال... سعوديون هزموا الغُزاة وحققوا بطولاتٍ دونها التاريخ

مهما حاول المؤرخون تصوير ما وقع من العثمانيين واجتياحهم للجزيرة العربية في عصر الدولة السعودية الأولى لن يصفوا حجم الجريمة التي اقترفها التُّرك حينها من قتل، وتشفٍ، وتمثيلٍ بالقتلى، ومحاولة إيغال في الإرهاب. وبقدر وحشية العثمانيين وجرمهم صُدموا بأبطالٍ لم يتوقعوا مواجهتهم حين قرروا إرسال حملاتهم وعساكرهم وعتادهم، بطولات السعوديين دونتها المصادر التاريخية التي عاصرت الجرائم التركية في حينها، ووصفت كيف كانت مواجهتهم بمواقف بطولية من قبل الأهالي ضد أولئك الغزاة الهمج في حملاتهم على السعوديين.

وقائمة البطولات السعودية طويلة مما دونته كتب التاريخ، ومما يُذكر أنه حين هاجمت الحملة التركية بقيادة مصطفى بك بلدة تربة سنة (1813) تصدّت له البلدة برجالها من قبيلة البقوم، حيث يصف البريطاني هارفرد جونز التصدي بقوله: “لقد أبدت قبيلة البقوم خلال المعارك عملاً مميزًا حيث تزعمتها امرأة تدعى غالية وكانت أرملة لواحد من شيوخ تلك القبيلة، وكان أحد أسباب نفوذ الأرملة غالية أن مضافتها كانت مفتوحة لكل السعوديين المخلصين”.

وتشير المصادر التاريخية إلى أن غالية أعدّت العدة وأنفقت الأموال في سبيل دعوة القبائل للانضمام إليها لمواجهة الغزاة المعتدين، وجعلت من بيتها مقرًا للقيادة العامة، ومن تلك التدابير قيام الأهالي من البقوم بإنشاء بعض البروج على سور بلدتهم. ويذكر بريدجز أيضًا عن ردة فعل الترك بعد مقاومة البقوم لهم بقوله: “لقد أضاف العسكر الجهلاء المؤمنون بالخرافات إلى إنجازات غالية الأخرى السحر والشعوذة، وكانت القصص التي يرددونها حول هذا الموضوع لا تتناسب في سخافتها بأي حال مع القوة التي تتمتع بها تلك المرأة، وعلى كل حال لم تكن تلك القصص بدون أثر في الأتراك المؤمنين بالخرافات، ولذلك لم يكن من المحتمل أن تزيد من ثقتهم بأنفسهم، ويمكن أن تعد هذه القصص من العوامل التي أسهمت في هزيمة طوسون”.

وجسدت هزيمة مصطفى بك في تربة أمام غالية البقمية ضربةً قاسية لسمعة الوالي العثماني محمد علي وابنه طوسون، لذلك كان حَنِقًا من أن امرأة استطاعت هزيمة أحد ضباطه، وبينما كانت شهرة غالية قد ذاعت في كل البلاد، عاد مصطفى بك مثقلاً بعار الهزيمة، وأسهم العساكر الأتراك العائدون من المعركة في رفع ذكر غالية ونشر قصص شجاعتها وبسالتها وبطولتها في الحرب والمواجهة أمام الأعداء.

بطولات السعوديين لم تتوقف عند بلدة بعينها، ففي شقراء ظهرت بسالة الأهالي حين حاصرهم إبراهيم باشا مدة أسبوع، ضاربًا أسوارها بالمدافع ما أدى إلى تهدّم بعض الجهات من السور، وانتهى الأمر بعقد الصلح بين أهلها وإبراهيم باشا بعدما قطع من نخيلها النصف أو يزيد. ويذكر ابن بشر في تاريخه ما نصه: “وفي آخر ذي الحجة أمر حمد بن يحيى بن غيهب أمير شقراء وناحية الوشم على أهل شقراء أن يحفروا خندق بلدهم وكانوا قد بدأوا في حفره أشد القيام، واستعانوا فيه بالنساء والولدان لحمل الماء الطعام حتى جعلوه خندقًا عميقًا واسعًا وبنوا على شفيره جدارًا من جهة السور ثم ألزمهم كل رجل غني يشتري من الحنطة بعدد معلوم من الريالات خوفًا أن يطول عليهم الحصار فاشتروا من الطعام شيئًا كثيرًا، ثم أمر على النخيل التي تلي الخندق والقلعة أن تشذب عسبانها ولا يبقى إلا خوافيها..”.

تحدّى الأهالي في البلدان السعودية القوات التركية وقادتها، وأجبروهم في مواقع عدَّة على القبول بالصلح رغم ما يمتلكونه من عساكر وعتاد.

أظهر السعوديون في شقراء دفاعهم المستميت عن وطنهم وحبهم في الذود عنه بالمال والأملاك والحلال، حتى ضربوا بذلك أروع الأمثلة في التفاني في الدفاع سواء من الرجال أو النساء أو الأولاد، ورسموا لوحةً أرخصوا فيها أرواحهم لوطنهم.

ولا يُنْسَى ولا يُمْحَى من الذاكرة الموقف البطولي المشرف لأهالي بلدة ضرما الذين قاوموا بثبات نادر وواجهوا بكل ما ملكوه من قوة وسلاح وإمكانات جيش الترك الغازي، وقد وصف ذلك المؤرخ السعودي عمر الفاخري حملة إبراهيم باشا بقوله: “ثم سار ونزل ضرما لأربعة عشر من ربيع الثاني فحاربها واستباحها عنوة، فقتل الباشا من أهلها في البيوت والسكك والمساجد، قيل قتل من أهلها اثنتا عشر مائة، ومن فيها من غيرهم خمسين، ونهب البلد كلها ثم ساق من فيها من النساء والذرية إلى الدرعية وهم نحو ثلاثة آلاف أو أكثر”.

ومن جهة أخرى استفاض ابن بشر في ذكر ما وقع لأهل ضرما من جيش الترك البربري بقوله: “ثم سارت العساكر بالقبوس والمدافع والقنابر ونزلوا بها شمال البلد قرب السور، فثار الحرب بين الترك وبين أهلها وحقق الباشا عليهم الرمي المتتابع وحربهم حربًا لم ير مثله وثبت الله أهل البلد، فلم يعبأوا به، وطلب منهم المصالحة فأبوا عليه ولم يعطوه الدنية”. ويضيف “كانت هذه البلد ليس في تلك النواحي أقوى منها بعد الدرعية رجالًا وأموالًا وعددًا وعدة ولكن الله يفعل ما يريد، فحشدت عليهم عساكر الترك وثلموا السور بالقبوس والمدافع فلم يحصلوا على طائل، ثم حشدوا الترك عليهم أيضًا وقربوا القبوس من السور وحربوها حربًا عظيمًا هائلًا، ثم إن الباشا ساق الترك عليهم وأهل البلد ثابتون فيه فحمل عليهم الترك حملة واحدة فثبتوا لهم وجالدوهم جلاد صدق وقتلوا منهم نحو خمسمائة رجل وردوهم إلى باشتهم وبنوا بعض ما انهدم من السور، فلما رأى الباشا صبرهم وصدق جلادهم أمر على بعض القبوس وصرفها إلى جنوب البلد، وكان الحرب والضرب والرمي متتابع على أهل البلد من الترك في الموضع الأول وجميع أهل النجدة من أهل البلد والمرابطة قبالتهم”.

ويتابع ابن بشر بالقول: “ودخلت الترك البلد من كل جهة وأخذوها عنوة وقتلوا أهلها في الأسواق والسكك والبيوت، وكان أهل البلد قد جالدوهم في وسطها إلى ارتفاع الشمس وقتلوا من الترك قتلى كُثُر ولكن خدعهم الترك بالأمان، وذُكر لي أنهم يأتون أهل البيت والعصابة المجتمعة فيقولون لهم أمان ويأخذون سلاحهم ويقتلونهم، ونهبوا جميع ما احتوت عليه البلد من الأموال والأمتاع والسلاح واللباس والمواشي والخيل وغير ذلك، وهرب رجال من أهل البلد وغيرهم على وجوههم في البرية فبين ناجٍ ومقتولٍ، وبقيت البلد خالية من أهلها.. “.

يتفق ابن بشر مع ما قاله المؤرخ الفرنسي فليكس مانجان، الذي نقل لنا صورة المشهد المأساوي التي عاشته ضرما وأهلها من الإجرام التركي البربري حيث يقول: “إن إبراهيم باشا المنتصر، الذي واجهته مقاومة لم يتوقعها، أمر الجنود بالقضاء على أهل المدينة قضاء مبرماً، وطلب منهم ألا يبقوا على أحد، وقد نفذ الجنود أمر قائدهم في الحال. وما كاد الأتراك المتلهفون للسلب والنهب، يهزمون آخر المدافعين عن المدينة حتى دخلوها، ونفذوا إرادة قائدهم بسرعة تفوق سرعتهم لو طلب منهم القيام بالهجوم، فانقضوا على الأهالي، يطلقون النار عليهم بغزارة، ودخلوا المنازل وقضوا على أهلها، وقد أنجزوا ذلك خلال أقل من ساعتين ولم يبق إلا بضع مئات من النساء والأطفال، الذين أبقت رأفة الجنود حياتهم، وكان هؤلاء الضحايا المساكين يرون أمام أعينهم جثث آبائهم، وإخوتهم، وأزواجهم وقد اختلط بعضها ببعض، كانت الدماء تسيل في الطرقات، ذلك كان العقاب الذي أوقعه إبراهيم باشا بسكان ضرما الذين أرادوا الوقوف بوجهه..”.

وجاءت الدرعية عاصمة الدولة السعودية لتصوّر لنا فصلاً من فصول البطولة والملحمة الخالدة في الدفاع عن الوطن، حين صمدت الدرعية أمام حصار إبراهيم باشا منذ شهر جمادى الأولى من سنة 1233هـ/1818م، وبرز أهالي الدرعية وقيادتها وأظهروا البطولة في المقاومة والمجالدة للغزاة، فيشهد لهم بذلك باب سمحان، وحي الطريف، والبجيري وغيرها، فسطّرت بقيادتها دروسًا في قوة التحمل والصبر في مواجهة القوات التركية الهمجية التي لا تراعي النفس والبشر، ويأتيها المدد من الداخل والخارج بينما تعاني الدرعية الحصار الجائر.

خالف السعوديون توقعات الغُزاة التُّرك في المواجهات العسكرية... ومن هول ما رأوه من بطولة سعودية سوَّغوا هزائمهم بالخرافة.

 ولا شك أن هذه الحالة صورةٌ من صور الأزمة الأخلاقية التي عاشها جيش الترك الهمجي في حربه ضد السعوديين، والتي وصفها ابن بشر بقوله: “وفرَّق عساكره تجاه جموع أهل الدرعية.. وقعت الحرب بينهم، واضطرمت نارها، وطار في السماء شرها وشرارها، فتخالفت القنابر، والقبوس، والمدافع، وصار مطرها فوق تلك الجموع متتابعًا، فاشتد بينهم القتال، وتصادمت الأبطال، والحرب بين الترك وأهل الدرعية سجال”.

وهذا جزء يسير من شراسة تلك المعارك وقوتها التي واجهتها الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى، ووقف أمامها الأبطال من آل سعود بقيادة الإمام عبدالله بن سعود بن عبدالعزيز وبقية أهالي الدرعية وأعيانها والرجال البواسل من البلدان النجدية، ولتنتهي مرحليًّا حقبة مهمة من تاريخ السعوديين في مواجهة الغزاة المجرمين.

  1. جوهان بوركهارت، مواد لتاريخ الوهابيين، ترجمة: عبدالله الصالح العثيمين (الرياض: د.ن، 1985).

 

  1. دلال الحربي، غالية البقمية حياتها ودورها في مقاومة حملة محمد علي باشا على تربة (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2013).

 

  1. عبدالرحيم عبدالرحمن، الدولة السعودية الأولى 1158-1233ه/1745-1818م، ط 6 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي ، 1998).

 

  1. عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971).

 

  1. فليكس مانجان، تاريخ الدولة السعودية الأولى وحملات محمد علي على الجزيرة العربية، ترجمة: محمد خير البقاعي (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2003).

 

  1. محمد بن عمر الفاخري: تاريخ الفاخري، تحقيق: عبد الله بن يوسف الشبل، مكتبة العبيكان، الرياض، 1999م.

 

  1. هارفرد بريدجز، موجز لتاريخ الوهابي، ترجمة: عويضة الجهني (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز 2005).