مترجمًا مأزق العقلية القومية الإيرانية

الشعوبي عبدالحسين زرين: إن القرنين الأوّليْن لدخول الإسلام إلى فارس كانا قرني صمت وتجهيل واضطهاد ثقافي

لم يجرؤ أحد من الفرس انتقاد الإسلام صراحة، لكنهم تحايلوا واستبدلوا ذلك الانتقاد بالتقليل من الشخصية العربية والهجوم عليها، واتهامها بما ليس فيها؛ لأنها -كما زعموا- “اكتسحت الثقافة الفارسية وقمعتها وجففت منابعها”، ما سبق ليس قولاً لمفكر عربي بل هو للإيراني “عبدالحسين زرين كوب”.

لا نبالغ إذا قلنا إن الفارسية المتعصبة العنصرية التواقة لإرثها “الزرادشتي”، لا تزال متغلغلة في الوجدان الفارسي، ولعل أقرب وصف للحالة “الفارسية الإيرانية” المتداخلة العجيبة في شكلها الحالي، هو: أن هناك دولتين في إيران تتخادمان، لكل منهما دورها الذي تؤديه دون أن تصطدم بالأخرى ، وتعملان بالتوازي لمصالح الإرث الفارسي.

الدولة الأولى: دولة عقائدية رجعية مذهبية موغلة في الخرافة، مزجت بين شعائر قديمة عديدة وقدمتها على أنها إسلامية، بهدف امتلاك العاطفة والاستيلاء على المشاعر وتحريك الولاء نحو طهران.

الدولة الثانية: فارسية عنصرية تستخدم نتائج الأولى لتحقيق وتعميق النزعة الفارسية في الأنفس الإيرانية وإبقائها متقدة، والعمل لاستعادة الإمبراطورية الفارسية، ووجود الدولة الأولى ما هو إلا وجود مرحلي، تنتهي تمامًا بتتويج الدولة الفارسية الثانية.

هذا ليس خيالاً، فقد فعلها آخر ملوك إيران محمد رضا بهلوي، ففي الثاني عشر وحتى الرابع عشر من شهر أكتوبر العام (1971)، أقام الشاه احتفالاً ضخمًا على ذكرى مرور 2500 عامٍ من تأسيس الإمبراطورية الفارسية. أقيم الحفل وسط آثار مدينة بيرسيبوليس القديمة قرب ضريح أول ملوك الفرس الإخمينيين “كورش” مؤسس الإمبراطورية الفارسية، وهو الوقت الذي كان فيه الفرس جاهزين لاستعادة حلم الإمبراطورية، غير أن العالم لم يكن مستعدًا لقبول هذا العبث الفارسي حينها.

الشاه محمد رضا بهلوي أراد الخروج من العقدة العربية سنة (1971) باحتفال ذكرى الإمبراطورية الفارسية الأولى قبل 2500 سنة عند قبر "قورش".

اتهام مبطن للعرب والإسلام:

يقول القومي الإيراني عبدالحسين زارين كوب في كتابه “قرنان من الصمت”: “إن القرنين الأوّليْن لدخول الإسلام إلى فارس كانا قرني صمت وتجهيل واضطهاد ثقافي”. وقوله يُعَدُّ نظرية شائعة في إيران، ترى أن الفاتحين العرب كانوا متخلفين أجلافًا لا يحملون أي شيء يقدمونه، فحاربوا اللغات الفارسية، وفرضوا العربية بحد السِّنان، مما حتّم على الفرس التقوقعَ والسكوت الأدبي مائتيْ عام، رابطين خروجهم من القرنين الأوَّلين في الإسلام بحكم المأمون للدولة العباسية، الذين استطاعوا من خلاله الدخول لمفاصلها واستعادة ما يزعمونه من هوية.

ويعلق الباحث الأردني خالد بشير واصفًا وصول المتطرفين الفرس إلى سدة الحكم العربي، وتحديداً مع نهاية عصر هارون الرشيد، بقوله: “إنه جاء أثر تغلّب الخليفة المأمون، ومناصريه من الفرس على شقيقه الأمين، ومن ثم وصول الفرس إلى المناصب العُليا في الجيش والقصر العباسي، لتبدأ بذلك القومية الفارسية بالانبعاث من جديد؛ بل إنّ عبد الحسين زرين كوب، يجعل من الحضارة العباسية حضارة فارسيّة بامتياز”، كما يصف بشير الشعوبية قائلاً: “على مستوى الحراك الفكري والأدبيّ، شهدت المرحلة الجديدة بروز التيار المعروف بـ الشعوبية، وهو التيّار الذي حاول المجادلة والتفنيد لمقولة أفضلية العرب، التي اعتبرت ردّ فعل على الأطروحات القوميّة العربيّة التي راجت وسادت طيلة العصر الأمويّ، وبقيت الحركة الشعوبيّة معتزة بالتراث الفارسيّ، ودعت إلى إحيائه من جديد، ورفعت شعار أفضلية الشعوب الأخرى على العرب؛ رداً على النزعة العربية، ومن الشعوبيّين من ذهب إلى أبعد من ذلك، فيتحدث الجاحظ في كتابه البخلاء عن طائفة من الشعوبية كانت تسمى الآزادمرديّة، كانوا يرون بُغضَ العرب، وأنّه لا تفضيل لهم على العجم، ويقول عنهم: وهم الأشدّ تعصباً للفرس”.

تشابك العلاقة العربية الفارسية:

يحلِّل الروائي والكاتب أحمد فال كتاب عبدالحسين زرين كوب “قرنان من الصمت”، مؤكدًا تشابك العلاقة العربية الفارسية وتحامل الفرس عليها: “إن من يقرأ الكتاب يفهم أنه وُضع للخروج من مأزق تاريخي مزعج للعقلية القومية الإيرانية، التي كانت في عنفوانها أيامَ تأليفه. فالأساطير الفارسية تبالغ في الواقع العلمي والثقافي لبلاد فارس قبل الإسلام، لكن الواقع والدراسة المتأنية لا يعززان الصورة القابعة في الذهن القومي. ولذا فقد عاد المؤلف في تقديمه للطبعة التي بين أيدينا وعدل كثيرًا من نص الكتاب، معترفا بأنه كان مليئًا بالعنصرية والأخطاء؛ لعجزه عن الاعتراف بأخطاء إيران أو هزيمتها. ومع أن النسخة التي بين أيدينا نسخة معدلة –باعتراف المؤلف- فإنها تحوي ما يكفي من العنصرية ومجانبة الأمانة العلمية، ولعل من يقرأ الكتاب ويرى كيف يطلق صاحبه الأحكام الخطرة العارية من الأدلة، يفهم سبب عدم ترجمته للغات أخرى، إذ لم يترجم للإنكليزية مثلا إلا بعد خمسين عامًا”.

نقض فرضية الاضطهاد العربي للثقافة الفرسية:

وفي سعيه لتفنيد نظرية اضطهاد العرب الثقافة الفارسية يقول أحمد فال: “البحث التاريخي المعاصر لا يعضد وجود أدب معتبر في الفارسية القديمة. وقد أقر بذلك أغلب الدارسين المهتمين حتى أولئك المغرمون بفارس تاريخًا وأدبًا وموسيقى مثل الأستاذ بجامعة هارفارد ريتشارد فراي. إذ يرى أنه يعسر على الباحث إيجاد أدلة على وجود كتابات إيرانية قبل الإسلام، خصوصًا بالمقارنة مع الرومان والإغريق، فرغم كثرة التنقيب والترجمات، ووجودَ دعم سخي للبحث لم يجد القومُ ما يثبت وجود نصوص أدبية جادة تعود إلى ما قبل الإٍسلام. ويكاد ما وُجد أن ينصرف إلى نثرياتٍ في أنماط التعاطي مع كسرى وحاشيته، وغير ذلك من تقاليد الوثنية السياسية الكسروية. أما الشعر النفاذُ، والنثر الأخاذُ الذي ظهر تحت ظل الإسلام فلا أثر له قبل ذلك، لأنه كان منتجًا إسلاميًّا استفزّْته الهبّةُ الدينية الجديدة، وغذّاه انتشار العلم والتعليم الذي جاء به الدين الجديد، وولده التزاوج اللغوي مع لغة فتية شاعرة قادمة من صحراء العرب. وأمام هذا الواقع المعرفي وقع العقلُ القومي في مأزق ناتج عن حقيقتين”. الأولى: غياب نصوص أدبية أو علمية مكتوبة بالفارسية القديمة، والثانية: بروز اللغة الفارسية الإسلامية واحدةً من أزهى لغات العالم وأكثرها عذوبة وأعمقها أدبًا، مما أنتج أدباء عاشوا في ظل الدولة الإسلامية وأنتجوا إبداعا عظيمًا مثل السنائي وحافظ، وسعدي والخيام والرومي.

وهاتان الحقيقتان تزعجان العقل القومي المعادي للإسلام؛ لتضمنهما خلاصة تقول: إن الإسلام هو الذي منح اللغة الفارسية عمقها الفلسفي وعذوبتها الأسلوبية بعد أن لامس الدينُ شغاف النفس الفارسية، وحُقنت الفارسيةُ بالعربية مما “منح العالم لساناً من أعذب الألسنة”، وللخروج من هذا المأزق افترض القوميون الفرس وجود أدب راق لكنه ضائع، وينقل “فال” عن المؤرخ الإيراني صاحب كتاب قرنان من الصمت هذا النثر المليء بالاتهامات للعرب والانتقاص منهم:

“في الوقت الذي كانت فيه النغمات البهلوية لبربار ونغيسا تملآن البلاط الساساني بالأصوات العذبة كان اللسان العربي -بين أفواه العرب- أيبسَ وأتعس من الرمال الملتهبة… فإذا تردد صدى في الصحراء فإنما هو هيعة لص! كانت كلماتهم لا تحمل أي توجيه، ولا عاطفة، وشعرُهم متمحور حول الميسر وأعضاء الإبل، وكانت اللغات الإيرانية مليئة بالمعاني والفلسفة والمنطوقات الجميلة. كان الإيرانيون يقرؤون الكتب الدينية ويغنون أغاني الجنان، ويكتبون قصصًا عن ملوكهم… ويقدرون الكلمة الجميلة”.

  1. أحمد فال الدين، “قرنان من الصمت: كان الفاتحونَ أجلافًا، حاربوا الفارسية، وفرضوا العربية بحد السِّنان”، نشر “الموقع” (د.ت)، على الرابط: http://www.almawqi.com/2019/03/04/2cofc/.
  2. بادي بدايتي، كورش كبير (تهران: انتشارات دانشكاه، 1335هـ).
  3. خالد بشير، “كيف ينظر الفرس للعرب؟”، موقع حفريات (2020)، على الرابط: https://hafryat.com.
  4. محمد السلمي، الآخر العربي في الفكر الإيراني الحديث (الرياض: المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، 2018).
  5. هوما كاتوزيان، الفرس: إيران في العصور القديمة والوسطى والحديثة، ترجمة: أحمد حسن المعيني (بيروت: دار جداول، 2014).

بهدف إضفاء طابع شرعي على سلوك إنساني شاذ:

حوَّل الفرس حقدهم على العرب إلى عقيدة سلوكية واعتقاد ديني

لم يكتف الفرس بتفريغ استعلائهم العرقي ضد العرب في مسارح الحروب ومعاقل الكراهية، وإنما قرروا تسطير هذه الأحقاد في أمهات المؤلفات وأصول المخطوطات، ومن ثم تحويل الحقد إلى عقيدة سلوكية واعتقاد ديني عملوا على تأصيله وتقعيده-فيما بعد- ببعض النصوص الدينية بهدف إضفاء الطابع الشرعي على سلوك إنساني شاذ حاول الدين تقويمه وقاوم العرب نشوزه.

في هذا السياق، اجتهد الفرس في تأليف مجموعة من الإنتاجات التي تحيل على عقيدة استعلائية ونمط عنصري شاذ، وهو ما صعَّب من إمكانية إنجاح محاولة التقارب بين الطرفين، خاصة بعد أن اعتبر بعض الفرس بأن العداء للعرب واجب ديني وانضباط عقدي.

وبما أنه يصعب رصد جميع الكتابات التي تناولت العرب بالتنقيص والتقليل، فإننا سنحيل على أحد أهم المراجع التي يحيل عليها الفرس والتي رُفِعَت إلى مرتبة أعظم أدب فارسي في جميع العصور. والإحالة هنا على كتاب “ملحمة الشاهنامه” الذي أهداه أبو القاسم الفردوسي للسلطان محمود الغزنوي، وهو عبارة عن جمع لملاحم الفرس منذ القدم إلى سقوط الدولة الساسانية.

وإذا كان الباحثون قد شككوا في بعض روايات الفردوسي، خاصة تلك المرتبطة بالتاريخ القديم للفرس، فإن ما يهمنا في هذه المقالة هو رصد تلك النزعة العرقية والاستعلائية للفرس والتي تَبْقَى الخيطَ الناظمَ في جميع الأبيات التي نظمها الشاعر في هذه “الملحمة” (حوالي 60 ألف بيت).

ومنذ التاريخ الفارسي القديم هنالك حالة استعلاء وحقد على العرب، منها ما سبقت الإشارة إليه من عقيدة الحقد التي تَشَبَّع بها سابور الثاني (ذو الأكتاف) تجاه العرب حتى أنه “لما أتى عليه ثلاثون سنة من ملكه وعمره تشمر للركض إلى بلاد العرب… وأمر بوضع السيف في رقاب العرب فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا. ثم قال: من وجدتموه منهم فاقطعوا يديه وانزعوا كتفيه. ففعلوا ذلك فلقبته العرب من أجل ذلك ذا الأكتاف”.

ويبدو أن هذه العقيدة الاستعلائية كانت ضابط تعامل الفرس مع العرب لقرون من الزمان، خاصة مع إشراقة شمس الإسلام وبزوغ رسالة خير الأنام، حيث قابلها الفرس بالرفض والامتناع ليس رفضًا لمضمونها وإنما لطبيعة “العرق” الحامل لرسالة الإسلام. وهنا رأى الفرس في قبول الإيمان والتسليم به اعترافًا بمكانة العرب باعتبارهم الحاضنين الشرعيين “للدين الجديد” وتشريفًا لهم من طرف المولى عز وجل، الذي يعلم أين يضع رسالته وأمانته.

في هذا السياق، تعكس رسالة القائد العسكري والمنجم رستم بن هرمزد إلى سعد بن أبي وقاص تلك الحالة النفسية والعقيدة الاستعلائية للفرس تجاه العرب. حيث جاء في متن الرسالة ما نصه “من رستم بن هرمزد إلى سعد بن أبي وقاص…أعلمني بما أنت عليه من دينك…وأخبرني من سلطانك وبمن اعتضادك واعتصامك. فقد جئت في عساكر حفاة عراة بلا ثقل ولا رحل ولا فيل ولا تخت. ثم بلغ بكم الأمر من شربكم ألبان الإبل وأكلكم أضباب القيعان إلى تمني أسِرَّة الملوك العجم أرباب التخوت والتيجان”.

من خلال هذه الرسالة نستشف الصورة التي رسمها الفرس عن العرب، بالرغم من أن رستم كان قد تنبأ بصعود نجم العرب وأفول نجم الفرس. ورغم ذلك نجده يضيف في الرسالة نفسها قائلاً: “…فأقبل إلى خدمة الملك حتى ترى من إذا تبسم وهب أثمان جميع رؤوس العرب، ولا ينقص ذلك كنزه شيئًا. وهو الذي على بابه من السباع الضواري المعلمة والجوارح اثنا عشر ألفًا بأطواق الذهب وأقراه، وتزيد نفقاتهم لسنتهم الواحدة على جميع حاصل بلاد العرب”.

صاحب ملحمة الشاهنامة أبو القاسم الفردوسي لم ينله من الفرس إلا النكران والجحود.

لم يكن نصيب الفردوسي من هذه الملحمة إلا الجحود ونكران المجهود من الفرس، فما كان منه إلا أن نعى الجهد وبكى على ما مضى من العمر وقال والحزن يعتصر قلبه والدموع تغالب جفنيه: “وها أنا، بعد خمس وستين سنة أنفقتها من عمري، قاعدًا حزينًا لا أرى سوى “أحسنت” من أبناء الزمان نصيبا، ربقوا على الحقيقة أعناق البدر العتيقة. فعيل صبري وضاق صدري. وكم تعبت وتحملت وكم غصص تجرعت حتى تسنى لي نظم هذا الكتاب في مدة ثلاثين سنة آخرها سنة أربع وثمانين وثلاثمائة”.

كان هذا نصيب من نفخ في تيجان ملوك الفرس واستطال في سرد أساطير العز والملك، فكيف يكون مصير من أراد استبدال عزة العرب وفصاحة اللسان بنظام عرقي استعلائي إرهابي يرى في أذرعه -من بني جلدتنا- أدوات مجردة وملقطًا لخدمة أجندات حكماء فارس قبل أن يُرمى بهم إلى مزابل التاريخ وهو يرددون “يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانًا خليلاً”.

إن حقن كتب التراث بهذه المخلفات العرقية العنصرية يساهم في تكريس عقيدة الحقد والكراهية لدى الفرس تجاه العرب. وإذا كان تروتسكي قد دفع بأن “الحقد هو أسهل معاول الصراع الطبقي”، فإن الفرس جعلوا من الحقد من أخطر أسلحة الصراع العرقي والعقدي على السواء.

  1. أبو القاسم الفردوسي، “ملحة الشاهنامة”، ترجمة: الفتح بن علي البنداري (القاهرة: مطبعة دار الكتب المصرية القاهرة، 1932م).
  2. محمد السلمي، الآخر العربي في الفكر الإيراني الحديث (الرياض: المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، 2018).
  3. رئيف خوري، مع العرب في التاريخ والأسطورة (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2019).
  4. عبد الوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2012).
  5. هوما كاتوزيان، الفرس: إيران في العصور القديمة والوسطى والحديثة، ترجمة: أحمد حسن المعيني (بيروت: دار جداول، 2014).
تشغيل الفيديو

بمغالطات تاريخية وأحقاد عنصرية

ترجم الفردوسي في "الشاهنامة" شعوبية الفرس ضد العرب

احتل الشعر أهمية كبرى لدى الفرس، وعلى وجه الخصوص بعد دخولهم الإسلام، فبعض الباحثين من الفرس يرون أن الشعر لم يتطور ويأخذ مكانته العالية في مجتمعهم إلا بعد الإسلام، فأشعارهم كانت لا تتعدّى الشعر الشعبي المعروف بـ”الفهلويات”، وهو يُعَدُّ شعرًا ركيكًا باللغة الفهلوية أو الفارسية القديمة. وبعد فتح بلاد فارس تأثر الفرس بالإسلام والثقافة والأدب العربي، والواقع أن الإسلام والعروبة مفهومان مترادفان متلازمان، فاعتنق الفرس الإسلام ظاهريًّا على مضض، وكان شغلهم الشاغل زرع الفتن ونشر الأراجيف وحيك الدسائس، حتى أدخلوا على الإسلام الأباطيل والبدع والضلالات.

يقول المؤرخ العراقي عبدالعزيز الدوري: “اندفع الفرس بشكل واسع وبقوة في العصر العباسي بدافع عنصري، وتمثل حركتهم جانبًا من محاولة شعوب غير عربية لضرب السلطان العربي، الذي انكشف في الصراع السياسي والثقافي والديني الذي قامت به العناصر الفارسية المتطرفة في عدائها للعرب والإسلام، فعملوا على التشكيك في الإسلام والتقليل من شأن العرب والحط من ثقافتهم”، وهذا النهج الفارسي استمر حتى وقتنا الحاضر.

بعد أن سيطرت الثقافة العربية وآدابها على الفكر الفارسي لمدة تزيد عن القرنين؛ انطلقت أولى الكتابات الشعوبية لتؤجج العداء الفارسي ضد العرب، عندما كلَّف السلطان محمود الغزنوي الشاعر الفارسي أبا منصور الدقيقي الطوسي بكتابة قصائد شعرية يمجد فيها تاريخ فارس وحضارتها، ويشتم العرب وحضارتهم، وبدأ بكتابة ملحمته الشاهنامة، لكنه قتل قبل أن يستكمل عمله الملحمي، فأكمل عمله أبو القاسم الفردوسي (توفي: 1020م)، وهو أحد أقدم الشعراء الذين كتبوا باللغة الفارسية، واستمر في العمل لمدة ثلاثة وثلاثين عاماً متوالية، وذلك في محاولة لمنافسة اللغة العربية، التي كانت تهيمن بثقلها الحضاري والأدبي على المنطقة. ورغم مفاخرة الفرس إلى اليوم بهذه الملحمة الوطنية لبلاد فارس فإنهم يغفلون ما تحويه من تعصب ومهاجمة العرب بأشكال عنصرية، وهو ما وقعت في فخه الملحمة على الرغم من أهميتها الأدبية. والحقيقة أن الكتاب يشكل ثقلاً كبيراً بالنسبة للقوميين الفرس. فالمنهج الذي سار عليه الفردوسي وغيره من الكتاب الفرس، اعتمدوا فيه على إرسال الرسائل الضمنية المباشرة المسيئة للعرب، وإظهارهم بصورة نمطية فَجَّة من خلال القصص المكذوبة والأساطير والخرافات والروايات المزورة والملاحم الشعرية المكذوبة.

كانت الشعوبية منهجًا فارسيًّا كرَّسته دويلاتهم التي قامت تحت ظلِّ العباسيين، وأبرز داعميها الغزنويَّة.

والحقيقة يمكن القول أن أول ما سنحت الفرصة لظهور الفارسية كلغة أدب، كان في عهد الدولة السامانية (819 – 999م)، التي اشتهرت بالعمل على إحياء القومية الفارسية من جديد ثم جاءت الدولة الغزنوية، فازداد الميل إلى هذه النزعة بشكل واضح، ونظم الفردوسي ملحمته الشهيرة “الشاهنامة” التي بلغت حوالي ستين ألف بيت من الشعر، كاشفًا فيها عن أمجاد الشعوب الإيرانية وقد زينها بقصص وسير لأبطال وشخصيات ملحمية ارتبطت بتاريخ الفرس، مما جعلها حديث الناس في مسامراتهم وأغانيهم.

ولو ألقينا نظرة فاحصة على تلك الملحمة التي ما زال يتباهى ويتفاخر بها الإيرانيون أمام العالم؛ لوجدنا أن مضمونها الأسطوري المتناقض مع ما يدعونه من عقيدة إسلامية. فقد تأثر الفردوسي في كتابته “الشاهنامة” -بشكل واضح- بـ”الأفستا”، وهو أول كتاب يضم أجزاء من أساطير الفرس القديمة، يتجاوز عمره الثلاثة آلاف عام، ويُعدُّ أقدم وثيقة تاريخية مكتوبة تعكس المراسم والأفكار والطقوس الدينية للمجتمع الإيراني القديم، وصوَّر الملوك بحالة من القدسية رفعتهم إلى مرتبة الآلهة كأحد أشكال التأثر بالأساطير الهندية واليونانية، ووُصف هذا العمل بأنه “الكتاب المقدس للديانة الزرادشتية”.

ومن أمثلة ذلك النفس الشعوبي والعنصري للفردوسي الذي يرشح أحقادًا عنصرية ونزعات شعوبية كقوله في كتابه: “انشق ملوك الفرس أجمعون عن طاعة ملكهم الأكبر واستبدوا في الرأي والملك، واجتمعوا إلى الضحاك ابن ملك العرب ليخلصهم من جمشيد، فما كان منه إلا أن نصب نفسه ملكًا عليهم، وقصد جمشيد الذي هرب إلى أرض الهند.. فقصده الضحاك ثانية وقضى عليه، وأمر بقتله بالمنشار..”، من خلال ذلك المقطع أظهر الفردوسي العربي هنا بأنه غادر متوحش في تعامله مع أعدائه، وهنا لا يسعنا إلا أن نتذكر “سابور ذا الكتاف” الملك الساساني الذي تلذذ بخلع أكتاف العرب، فالفردوسي يتحقق فيه قول المثل العربي “رمتني بدائها وانسلَّت”. وقوله في مقطع آخر في حق العرب “من شرب لبن الإبل وأكل الضب.. بلغ الأمر بالعرب مبلغًا أن يطمحوا في تاج الملك”، وفي ذلك نزعة استعلائية تنتقص من شأن العرب وتعلي من مقام الفرس كسادة تاريخ.  وبقيت هذه الملحمة الفارسية على الرغم مما يعتريها من مغالطات تاريخية وأحقاد عنصرية، موجهة ضد العرب راسخة لدى الفرس يفاخرون بها بين الأمم. بل زاد التفاخر بها في العصر الحديث والاعتزاز، مغلبة في ذلك النزعة القومية والعنصرية ضد العرب.

  1. أحمد الدينوري، الأخبار الطوال، تحقيق: عبد المنعم عامر (القاهرة : دار إحياء الكتب العربي، 1960).
  2. أبوالقاسم الفردوسي، ملحمة الفرس الكبرى، ترجمة: سمير مالطي، ط2 (بيروت: دار العلم للملايين، 1979).
  3. توفيق اليوزبكي، “العرب في مواجهة محاولات الفرس التخريبية في العصر العباسي”، بغداد: مجلة الرافدين، ع. 22 (1989).
  4. حكيم مرزوقي، ” الشاهنامة أول قصيدة في التاريخ لم تتحرر من عقدة الشعر العربي”، لندن: العرب، السنة 44، ع. 12254 (2021).
  5. عبد العزيز الدوري، الجذور التاريخية للشعوبية (بيروت: دار الطليعة ، 1962).