
سليمان القانوني:
من سلطان المجد إلى مستحوذ المقدسات
يُقدَّم سليمان القانوني في كتب التاريخ العثماني ومسلسلات “القوى الناعمة” بصورة السلطان المهيب الذي بلغ بالدولة العثمانية أوج قوتها. لكن وراء هذه الصورة اللامعة تقف حقائق أكثر قتامة، تكشف عن هوس شخصي بالفخامة والكنوز، وعن سياسات توسعية لم تتورع عن الاستيلاء على مقدسات الأمة وتحويلها إلى رموز شخصية للسلطان.
قراءة نقدية في شخصية السلطان العثماني بين هوس الفخامة وتناقضات السياسة.

نقش الغرور في قلعة بندر
في نقش مؤرخ بسنة (1538) بقلعة بندر، دوّن سليمان القانوني بلسانه ما يلخص نظرته لنفسه وسلطانه: “أنا عبد الله وسلطان هذا العالم، ورأس ملة المسلمين بفضل الله عليّ… أنا سليمان الذي يذكر اسمي في الخطبة بمكة والمدينة، في بغداد أنا الشاه، وفي بيزنطة أنا القيصر، في مصر أنا السلطان”…
لم يكن النقش مجرد توثيق سياسي، بل إعلان عن سلطان يرى نفسه جامعًا للألقاب ومهيمنًا على الأمصار، من هنغاريا إلى الهند، في تعبير يجمع بين النزعة الدينية والروح الإمبراطورية المهيمنة.
من صياغة الجواهر إلى امتلاكها
وُلد سليمان في طرابزون سنة 900هـ، وتربى في كنف والده السلطان سليم الأول. منذ صغره ارتبط اسمه بصياغة الجواهر مع أخيه في الرضاعة “يحيى”، وهي هواية ستنعكس لاحقًا على ذوقه السياسي: هوس بالمجوهرات والأحجار النفيسة، يظهر بوضوح في ما خلفه سلاطين آل عثمان من تيجان وحُلي وعمارة مبهرة.
هذا الشغف تحول إلى ممارسة سياسية، تجسدت في الاستحواذ على ما هو أثمن من المجوهرات الدنيوية: أجزاء من الحجر الأسود نفسه، التي انتُزعت من الكعبة ووُضعت على قبره وفي مساجد إسطنبول.
الألقاب والنصوص الدينية كغطاء سياسي
كان القانوني يفتتح مراسلاته بآية نبي الله سليمان: “إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم”. قد يُقال إن ذلك مجرد اقتباس، لكن استخدامه المتكرر يوحي بتماهٍ مع شخصية نبي ملك، بما يعزز صورته كحاكم قدري يجمع بين النبوة والسلطنة في المخيال السياسي. هذه الذهنية القانونية–السلطوية انعكست على سلوكه؛ فحين نازع أخاه محمد جلبي على العرش، برر الأمر بأن خصمه لم يكن “قانونيًا”، ليتخذ من القانون أداة لتبرير السيطرة.
توزيع المال… وشراء الولاء
استهل حكمه بتوزيع النقود على الانكشارية، وتعيين مربيه قاسم باشا مستشارًا خاصًا، وإرسال خطابات للولاة وأشراف مكة والمدينة مفعمة بآيات العدل والتحذير من الظلم، في صورة ظاهرها الإصلاح وباطنها تثبيت الولاء.
إعمار المدن… ونهب الأيدي الماهرة
عرف عن القانوني شغفه بالبناء، فشيد المساجد والحصون والقناطر في بغداد ودمشق ومكة المكرمة، وأبرزها مسجد السليمانية في إسطنبول. لكن هذه الإنجازات لا تنفي أن كثيرًا من المهندسين والحرفيين نقلوا قسرًا من بلادهم إلى الأناضول، ليجعلوا من إسطنبول حاضرة تضاهي القاهرة وغيرها، في ممارسة تعكس استغلالًا للقوة بدلًا من شراكة الحضارة.
“الكنوز المقدسة”: بين التبجيل والسطو
يحتوي متحف طوب قابي اليوم على ما يسميه الأتراك “الكنوز المقدسة”، وهي في حقيقتها مقتنيات استُجلبت من أرجاء العالم الإسلامي، بينها قطع من الحجر الأسود نُزعت من الكعبة، وُضعت على قبر القانوني وفي مسجد الصدر الأعظم قوصللو باشا. هذه الممارسة تكشف كيف اختزلت الرموز الدينية إلى أدوات لتلميع صورة السلطان ومجده الشخصي.
تناقضات السياسة العثمانية
يدافع بعض المؤرخين عن الدولة العثمانية بالقول إنها استُهدفت بمؤامرات خارجية أدت إلى تمزيقها، لكن هذا الطرح يتجاهل الثوابت التاريخية التي تؤكد أن سلاطين آل عثمان، ومنهم القانوني، دعموا التوجهات الدستورية التي ابتعدت عن التشريع الإسلامي، وفتحوا المجال للتيارات القومية والطورانية، وتبنوا سياسة التتريك التي أضعفت اللحمة الإسلامية.


- محمد أنيس، الدولة العثمانية والمشرق العربي(القاهرة: د.ن، 1963).
- محمد فريد بك، تاريخ الدَّولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي (بيروت: دار النفائس، 1983).