السلطان عبد الحميد الثاني
والاستيطان الصهيوني في فلسطين
تستوقف القارئ -مليًّا- العبارة الشهيرة للسلطان عبد الحميد الثاني التي يقول فيها: “لا أستطيع أن أبيع ولو شبرًا واحدًا من البلاد لأنها ليست ملكًا لي بل لشعبي ..ليوفر اليهود ملياراتهم”، والتي قالها في 19 يونيو1896م، أي قبل لقائه بمؤسس الحركة الصهيونية “تيودور هرتزل” الذي كان يطمح بالحصول على “فرمان همايوني” يُسمح به لليهود بتملك أرض فلسطين وباعتراف دولي بهذا الحق . إلا أن السلطان عبد الحميد الثاني التقاه بعد ذلك بعدة أيام أي في 26يونيو من ذات الشهر، ليستمع لمطالبه مما أدى إلى تكرر اللقاءات والمفاوضات فيما بين سنة 1896-1903م. وقد قام هرتزل خلالها بخمس رحلات إلى استنبول من أجل تحقيق هدفه، كانت اثنتان من رحلاته على نفقة السلطان عبد الحميد نفسه صاحب المقولة!!
رغم قوة العبارة ورنينها وتأثيرها في ذهن القارئ أو السامع إلا أنه لا يمكننا أن نُغيّب عقولنا في فهم الحقيقة بعيدًا عن بحر العواطف المتلاطم والهالة القدسية المصطنعة حول شخصية السلطان عبد الحميد الثاني خليفة المسلمين وحامي حماهم!! والسؤال الذي يتبادر للذهن هنا ما هو تأثير تلك العبارة في أبعادها في الواقع التاريخي على أرض فلسطين السليبة؟! وماذا قدم السلطان فعليا لإنقاذها والحد من خطر الهجرات اليهودية إليها؟ والذي فتح له السلطان عبد العزيز بابه مشرعًا أمام تسلسل تلك الهجرات أفرادًا وزُرَافَات، وذلك عندما أصدر فرمانا سنة 1869م، يسمح بتملك الأجانب للأراضي، وقد نحج اليهود في استغلال ذلك بشتى الطرق والأساليب، وترتب على ذلك تزايد الهجرات اليهودية إلى فلسطين. فهل نجحت سياسة السلطان عبد الحميد في الحد من تدفق تلك الهجرات إلى أرض فلسطين؟ وهل كانت أقواله تتطابق مع أفعاله؟! تساؤلات تجعل الإنسان في حيرة من أمره في الإجابة عليها، لما في تلك المواقف التي اتخذها السلطان عبد الحميد بهذا الشأن المصيري للمنطقة العربية من تناقض غريب.
وهنا برزت عدة مواقف للسلطان عبد الحميد كمحاولة للحد من تلك الهجرات بدت منذ سنة 1882م، ومع تزايد أعداد المهاجرين اليهود من أوربا الشرقية إلى فلسطين، أصدر مجموعة من الفرمانات بعدم السماح لهم بالاستيطان فيها. ولكن تحت الضغوط الدولية رضخ السلطان عبد الحميد في سنة 1890م، فمثلاً سمح بزيارة اليهود الدينية للقدس لمدة ثلاثة شهور وعدم الإقامة الدائمة بها، وذلك للذين هم تحت الحماية الأمريكية والبريطانية، إلا أن ذلك في اعتقادنا لم يكن كافيًا لحماية فلسطين من الهجرات اليهودية ولا تتطابق مع أقواله الرنانة. و بدت لنا الإشكالية الحقيقية في أن السلطان نفسه كان يصدر فرمانات بعدم السماح ببيع الأراضي وعدم التملك بصورة مباشرة، ومن جهة أخرى كان يبدي تساهلاً مع اليهود من خلال غض الطرف عن تطبيق تلك الفرمانات بشأن هجراتهم، أو من خلال إصداره فرمانات جزئية لمصلحة بعض اليهود يُسمح بمقتضاها شراء مساحات بسيطة من الأراضي في فلسطين وبهذا كسر فرمانات المنع والحظر وهنا برزت الإشكالية من خلال جملة من الأعمال المتناقضة قدمها السلطان في محاولاته للحد من الهجرات اليهودية، التي -في رأينا- ليست بعيدة عن شخصيته المتوهمة المتقلبة.
ولو استعراضنا سريعًا الواقع التاريخي بالأدلة والبراهين خلال فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني لأبرز البؤر الاستيطانية (القومبانيات) اليهودية، سوف نخرج بصورة ذهنية عميقة جدًّا تظهر الملامح الحقيقية لموقف السلطان من عمليات الاستيطان اليهودي في أرض فلسطين بعيدًا عن الأحكام المؤدلجة والعاطفية. حيث بدأت تلك البؤر اليهودية الاستيطانية بالتشكل حول بعض المدن والبلدات الفلسطينية وخارج أسوار مدينة القدس خلال فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني، ويدرك المرء هنا مدى عدم الحرص واللامبالاة أو الغفلة من السلطان وإدارته العثمانية في فلسطين، ولا سيما أن الرشوة كانت هي أحد المداخل الفاعلة في مثل التمدد الاستيطاني اليهودي، ولك أن تتصور أنه قد بلغت عدد البؤر الاستيطانية في عهد السلطان أكثر من ستة وعشرين مستوطنة يهودية، كمستوطنة بيت ديفيد، ومستوطنة مزكريت موشيه، ومستوطنة بيت إسرائيل ومستوطنة سكوت شالوم وغيرها.
كما شهدت مدينة القدس زيادة مهولة لأعداد اليهود المستوطنين فيها أواخر عهد السلطان عبد الحميد الثاني، ففي سنة 1880م، كان عدد اليهود 17000 مستوطن وفي سنة 1904م بلغ عددهم 40000 يهودي؟ وهو أمر مثير للاستغراب وهذ العدد بالطبع في مدينة القدس وحدها فقط، فما بالك في بقية المدن والبلدات الأخرى، ألا يدرك السلطان أن عمليات الاستيطان في عهده كانت ممنهجة وتحت سمعه وبصره؟! فأين تلك الفرمانات والأوامر بمنع الاستيطان والحد من الهجرة اليهودية؟ وماذا نسمي ذلك الموقف من السلطان عبد الحميد الذي قال لن نبيع فلسطين ولكنها بِيعت في الحقيقة وعلى أرض الواقع؟!!
وأخيرًا فإن من ينظر في سجلات المحاكم الشرعية لمدينة القدس سيجد أن هناك عددًا غير قليل من عمليات البيع والشراء جَرَت بالوكالات الشرعية للبيوت والدور بين اليهود أنفسهم بصفتهم مواطنين عثمانيين. أو بين اليهود الأجانب القادمين من روسيا وبوروسيا وإنجلترا وبين أهل مدينة القدس أنفسهم، وكل ذلك تم في فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني، وكذلك من يلقِ نظرة سريعة على دفاتر بلدية القدس في نفس الفترة التاريخية سيجد أعدادًا كثيرة من المحال والدكاكين التجارية المؤجرة لليهود داخل مدينة القدس فهناك أكثر من واحد وسبعين دكانًا خاصًا أُجِّرَ لليهود وهو ما يتناقض مع توجه السلطان في رفض بيع أراضي فلسطين، فالأقوال يسهل النطق بها ولكن التطبيق كان من الصعب تنفيذه على أرض الواقع، إنها الحقيقة التاريخية التي لن تحابي أحدًا، أو تلمع الوجه القبيح وإنما تظهر الواقع بشواهده الدامغة.