السلطان محمد الفاتح:
الحقيقة المُغَيَّبَة
لطالما تعمد كتّاب التاريخ العثماني المُسيَّسون إضفاء هالة من القداسة على سلاطين الدولة العثمانية، حتى وصل الأمر إلى تصويرهم كأنهم “خلفاء راشدون” أو “صحابة يمشون على الأرض”. وفي هذا التمجيد المبالغ فيه، تم التغاضي عن العديد من الحقائق المظلمة التي طمستها صفحات التاريخ، بما في ذلك الانحرافات الأخلاقية والسلوكيات غير السوية لبعض هؤلاء السلاطين. إحدى هذه الشخصيات التي خضعت لهذه التغطية التاريخية هي السلطان محمد الفاتح، الذي وُصِف بأنه “الأمير المبشر” بفتح القسطنطينية، رغم سلوكياته المثيرة للجدل.
بين الأسوار المغلقة: حقيقة السلوكيات المخفية
بعيدًا عن الأضواء العامة، كانت قصور السلاطين العثمانيين تعج بالفضائح الأخلاقية والانحرافات السلوكية التي تجاهلها “عبيد العثمانية” عمدًا، محاولين بذلك محو تاريخ حفلات الشذوذ والانفلات الأخلاقي التي اعتاد عليها بعض السلاطين، والذين وصلوا لدرجة تشريع وتبرير هذه السلوكيات في بعض الأحيان.
إن التأريخ المسيس الذي يهدف لتصوير السلاطين العثمانيين على أنهم حماة الإسلام، يقف ضد سرد الحقيقة التي تتناقض مع هذه الصورة المثالية. فقد امتلأت حياة بعض السلاطين، ومنهم محمد الفاتح، بالشذوذ الذي أصبح جزءًا من ثقافة البلاط العثماني، والذي تم دعمه وتبريره من قِبل بعض الحركات الصوفية مثل البكتاشية.
البكتاشية العثمانية: عندما شرعن التصوف الشذوذ
لم تكن هذه السلوكيات مجرد حالات فردية، بل كانت متجذرة في بعض الحركات الفكرية المرتبطة بالدولة العثمانية. ومن أبرز هذه الحركات “البكتاشية”، التي اشتهرت بتشريعها للسلوكيات غير السوية باعتبارها جزءًا من طقوسها الصوفية. هذه الأيديولوجيا فتحت الطريق أمام التقارب بين البكتاشيين والسلاطين العثمانيين، إذ أباحوا للسلاطين ممارسة الشذوذ تحت غطاء التصوف والارتقاء الروحي.
محمد الفاتح: بين المجد العسكري والانحراف الشخصي
السلطان محمد الفاتح، المعروف بفتحه القسطنطينية، لم يكن استثناءً من هذه السلوكيات المثيرة للجدل. وفقًا للدكتور سامح مرقس في كتابه “كلام العلم في الحب والجنس“، فإن الفاتح كان يُشتهر بعشقه للفتيان، حيث كان يختار أجمل الأطفال للخدمة في قصره. ومن بين هؤلاء الفتيان، كان الأمير الروماني “رادو”، شقيق الكونت دراكولا، هو المفضل لدى الفاتح، مما يُظهر جانبًا آخر من حياة هذا السلطان بعيدًا عن ميدان المعارك.
تشريع المثلية: سابقة عثمانية
المثير للاهتمام أن الدولة العثمانية لم تكتفِ بممارسة الشذوذ في الخفاء، بل سبقت الدول الأوروبية في تشريع هذه الممارسات. ففي عام 1858، ألغت الدولة العثمانية تجريم الأفعال الجنسية المثلية، قبل عدة عقود من دول مثل بريطانيا وإيطاليا. جاء هذا التشريع في إطار إصلاحات “التنظيمات”، التي تأثرت بالقوانين الفرنسية في عهد نابليون. وقد ظلت هذه القوانين سارية حتى بعد قيام الجمهورية التركية الحديثة.
الشذوذ السلطاني: بين القانون والواقع
في كتابه “القسطنطينية، المدينة التي اشتهاها العالم“، يروي المؤرخ الفرنسي فيليب مانسيل تفاصيل مروعة عن الحياة داخل قصور السلاطين العثمانيين. حيث كانت مراسم دخول الفتيان الجدد إلى القصر تتم وفق طقوس صارمة، وُيُعامل الفتيان كعبيد يخصون السلطان شخصيًا. وقد اشتهر الفاتح بميله الخاص للفتيان الوسيمين، وكانت هذه العلاقات تُدار بشكل منتظم داخل البلاط العثماني.
يصف مانسيل السلطان محمد الفاتح بأنه شخصية مركبة تجمع بين التناقضات: “وحشي ووديع، قاسٍ ومتسامح، تقي ولوطي”. وهو يقدم لنا صورة عن حياة الفاتح الخاصة التي غالبًا ما يتم إخفاؤها أو التغاضي عنها في السرد الرسمي للتاريخ.
الخاتمة: الأسطورة والحقيقة
لا شك أن السلطان محمد الفاتح قام بإنجاز عسكري وسياسي، لكن هذه الصورة المثالية التي حاول بعض المؤرخين الترويج لها تتجاهل الجوانب الإنسانية المعقدة في حياته. إن محاولة صناعة تاريخ مقدس للفاتح ولبقية السلاطين العثمانيين ليست سوى جريمة ضد الحقيقة التاريخية. ومن الضروري إعادة قراءة التاريخ العثماني بشكل موضوعي بعيدًا عن التقديس الأعمى، لنكشف عن الحقائق المغيبة التي تتناقض مع الصورة التي تم ترويجها عبر القرون.
الوجه الآخر للأمير المنتصر.
- فيليب مانسيل، المدينة التي اشتهاها العالم 1453 – 1924، ترجمة: مصطفى محمد قاسم (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون، 2015).
- سامح مرقس، كلام العلم في الحب والجنس (القاهرة: مركز المحروسة، 2022).
- وليد فكري، الجريمة العثمانية: الوقائع الصادمة لأربعة قرون من الاحتلال (القاهرة: الرواق للنشر والتوزيع، 2020).