" استجار الجزائريون بالرمضاء من النار مسألة الأخوين بارباروس"

عندما يقول المؤرخ التركي الراحل “يلماز أزنتونا” في معرض حديثه عن سقوط آخر معاقل العرب في الأندلس “أغضب هذا الظلم التعسفي الأتراك، فقررت الدولة العثمانية التدخل في المغرب”، يدرك القارئ حينها معنى الحقيقة الغائبة عند الكثير بسبب النظرة العاطفية الممزوجة بالدين التي نجح الأتراك عبر العصور في تسويقها لدى عقول الكثير من أبناء العرب، فالدولة العثمانية واقعيًّا تعاملت مع تلك المأساة اللانسانية التي مر بها الأندلسيون بطريقة (ميكافيلية) بحته، فاستغلت تلك الظروف وجيرتها لمصالحها التوسعية في شمال إفريقيا، وهي بذلك كانت تحقق سياسة استراتيجية متبعة لديها منذ بسط سيطرتها على المنطقة العربية  في القرن السادس عشر الميلادي. ولابد أن نشير إلى نقطة مهمة جديرة بالطرح والبيان قبل الحديث عن كيفية وصولهم إلى الشمال الإفريقي، وهي أن الدولة العثمانية منذ نشأتها كانت ذات نزعة قومية، ومنذ  بدايتها باعتبارها إمارة صغيرة في آسيا الصغرى، واستمرت على ذلك النسق حتى بعدما أصبحت إمبراطورية كُبرى، فبعد ابتلاعهم للمنطقة العربية أصبح العرب عاجزين عن القيام بالفعل والتأثير على مسرح السياسة العالمية وأصبح تاريخهم تابعًا وملحقًا بالتاريخ العثماني، فالتجاهل العثماني للعرب حقيقة تاريخية لا ريب فيها، والشواهد التاريخية على ذلك كثيرة لا تحصى، تدعمها الوثائق العثمانية الزاخرة بذلك، كالتقارير والأوراق الرسمية والمراسلات بين الآستانة والولايات العربية.

ومما تجدر الإشارة إليه، أن نجاح الأتراك في الوصول إلى شمال إفريقيا، والجزائر بصفة خاصة جرى من خلال استغلال ما كان يمارسه الأخوان “بارباروس” من قرصنة لمصالحهم الخاصة ضد السفن الأوروبية في البحر الأبيض المتوسط، والذي كان  تحت السيطرة العثمانية  قد دفع ذلك “عروج” إلى نقل نشاطه في القرصنة غربًا حتى لا يصطدم بالبحرية العثمانية، ومن ناحية أخرى لتتبع السفن الأوروبية غربًا واصطيادها، بل أقام له إمارة مستقلة في جزيرة جربة في تونس، ولكي يضفي شرعية على أعمال القرصنة ضد العدوان الأوروبي على شماليّ إفريقيا. وهو ما شجع الجزائريين على طلب الاستغاثة به لإنقاذ ميناء بجاية من أيدي الإسبان فحررها منهم وجعلها مركزًا لعملياته، ثم انتقل إلى بلدة جزائرية أخرى جعلها مركزًا له، وكل تلك الحركات كانت بجهوده الذاتية وبمغامراته وباسمه، وليس باسم الدولة العثمانية التي كانت زاهدة آنذاك في النشاط البحري غرب المتوسط. واستطاع عروج أن يحارب على جبهتين: فكان من ناحية يستغل فوضى الإمارات والمدن في شماليّ إفريقيا والمغرب الأوسط لإسقاط حكوماتها وفرض سيطرته عليها، وهو ما صرح به أخوه خير الدين في مذكراته بقوله:” لقد بات أنه من اللازم أن نؤسس دولة جديدة في غربتنا”، ومن ناحية أخرى استمر في تحرير الثغور الإفريقية الشمالية من الحاميات الأوروبية المحتلة. ولكن لقى عروج نهايته قرب مدينة تلمسان الجزائرية. ولتنتقل من بعده مهمة القيادة إلى أخيه خير الدين الذي وجد نفسه أنه قد أصبح قائدًا على قوة قد ضعفت عما كانت عليه من قبل، ووسط أجواء من المؤامرات الداخلية ضده، والتهديدات الإسبانية المستمرة، فضلًا عن أن شعبيته لم تكن كالشعبية التي حظي بها أخوه، ولكن يبدو أنه كان أكثر (براجماتية) وعملية من أخيه الراحل. فقرر خير الدين الانضواء تحت راية العثمانيين باعتبارهم “السادة الجدد”، فراسل سليم الأول سنة 1519م، وضمّن رسالته التوسلات لربط قضية الجزائر بالعثمانيين، والتماسات من القضاة والفقهاء والأعيان للسلطان بأن يضع الجزائر تحت تصرفه وبلغ الأمر حدًّا أن وصفوا أنفسهم أنهم “عبيد للدولة العثمانية” وهي رسالة كتبوها بأمر من خير الدين وليس من تلقاء أنفسهم، وختم رسالته بأنه كان ليتوجه بنفسه إلى إسطنبول ليمْثُلَ بين يديّ السلطان لولا توسُّل الجزائريين له -خير الدين- أن يبقى بينهم ليحمي بلادهم.

والواقع أنه لم يتردد سليم الأول في قبول مثل هذه الفرصة، فمن حيث لا يدري وجد نفسه أمام مساحة كُبرى من موانئ غرب البحر المتوسط تفتح له ذراعيها بغير تكلفة، فأرسل إلى خير الدين تكليفًا له بحكم الجزائر وفرمانًا بتلقيبه “بكلربي”-أي أمير الأمراء- وأرسل إليه ألفيّ جندي إنكشاري يساعدونه، فقد كانت صفقة رابحة للطرفين القرصان والسلطان، فخير الدين لم يعد قرصانًا متجولا بل صار واليًا وقائدًا عثمانيًا، والعثمانيون ربحوا أرضًا بثمن لا يُذكَر.  بل زادوا على ذلك فأكرموه بتعيينه قائدًا لأسطولهم لاستغلال مواهبه ومهاراته رغم أن الأهالي طالبوا العثمانيين بتركه مرابطًا في شمالي إفريقيا لشدة احتياج الجبهة لوجوده وقيادته. ولكن السلطان العثماني -كما عودنا- قدّم مصلحته على مصلحة الولاية. فحقيقة الأمر أن سكان الجزائر انخدعوا بعروج باشا وخير الدين بارباروس، حينما اعتقدوا أنهم سيكونون طوق نجاة من الاستعمار الإسباني ولجأوا إليهم لطرد المحتل واستعادة حكمهم للمدينة، فوجدوا أنفسهم في أحضان استعمارٍ جديد، ولإضفاء الشرعية على الحكم الجديد غلفوه بسيل من العواطف الدينية الجيَّاشة.