
تحالف السلاطين العثمانيين وتخاذل جيوشهم:
الحقيقة الغائبة عن مأساة الأندلس
غرناطة كانت هي المعقل العربي الإسلامي الأخير في الأندلس، يحكمها آل نصر المشهورون بـ”بني الأحمر”. في 995-996هـ / 1487م اشتد الحصار عليها من الملكين الإسبانيين فرناندو وإيزابيلا، وقد عزما على وضع نهاية لهذا الصراع العربي-الإسباني الطويل، وأن تكون المواجهات العسكرية، ومحاربة المسلمين بكل تعصّب وتطرّف ديني.
الاتفاقات السرية والمعلنة بين العثمانيين والإسبان.

أدرك ملك غرناطة أن القوتين اللتين تستطيعان مد يد الغوث لهما هما دولة المماليك في مصر والشام، ودولة العثمانيين في الأناضول وشرقيّ أوروبا. آنذاك، كان المملوكي والعثماني في صدام حربي بسبب النشاط العدواني للعثمانيين وسلطانهم بايزيد الثاني ضد الحدود المملوكية في شمال الشام، فضلًا عن نقمة بايزيد على السلطان المملوكي قايتباي لإيوائه الأمير جِم العثماني -أخو بايزيد- بعد تمرده على سلطنة أخيه.
في العام المذكور، وصلت إلى القاهرة سفارة من غرناطة تستغيث بالسلطان قايتباي ليرسل حملة عسكرية لإنقاذ غرناطة .لم يكن في حينها إمكان المماليك القيام بمثل هذا العمل، أولًا لبُعد المنطقة المذكورة عن قواعدهم للدعم والإمداد بريًّا أو بحريًّا، وثانيًا لأن الطريق البحري -وهو الأقرب من ذلك البري- للأندلس يقع في العمق البحري الأوروبي الذي تسيطر عليه قوى بعضها معادٍ وبعضها الآخر متقلب السياسات غير مأمون الجانب.
وكانت هناك جبهة قتال مع العثمانيين في الشرق، لكن قايتباي أبى إلا أن يمد يد العون لمسلمي الأندلس، فأعمل الفكر حتى وجد وسيلة للضغط السياسي. تجاذب المصالح السياسية جعل من قضية مسلمي الأندلس مجالًا لكسب الفرص وللتأمين الذاتي لكل سلطان ودولته.
لقد اختار قايتباي نابولي بالذات لكونها ترتبط بمصالح سياسية -وأخرى تجارية- مع المماليك. فآنذاك، كانت قبرص تحت الحكم المملوكي يتولاها ملوك من آل لويزينيان خاضعين لسلطان المماليك، وكان ملكها قد مات، فتنازعت البندقية مع نابولي على إدارتها -مع بقاء الوصاية المملوكية- فكان بعث قايتباي له بمثابة عقد صفقة ضمنية، يقول له فيها: “ساعد على رفع الحصار عن غرناطة وسننظر في أمر مطالبتك بإدارة قبرص”.
كذلك أرسل قايتباي للبابا الكاثوليكي أنوسنت الثامن، يطالبه بإقناع الإسبان برفع الحصار، وينذره أنه إن لم يفعل فسيغلق المماليك الأماكن المسيحية الكاثوليكية في دولتهم، ومنها كنيسة القيامة، وأنه سيوقّع العقاب بالفرانسيسكان في السلطنة!
سارع كل من ملك نابولي وبابا روما لمخاطبة فرناندو وإيزابيلا برفع الحصار، بل سافرا إليهما في محاولة مستميتة لذلك، ولكن الملكين المتعصبين كاثوليكيًا أصمّا آذانهما عن تلك التوسلات، فضلًا عن انهيار المقاومة الغرناطية وتسليم البيت الحاكم بالأمر الواقع وإعلانه الاستسلام للخصوم.
إضافة لتلك الجهود المملوكية، استغل قايتباي انتهاء الحرب مع بايزيد الثاني -بوساطة تونسية- وتبادل العاهلان الرسائل لتدارُس فكرة القيام بعمل عسكري مملوكي-عثماني مشترك لإنقاذ الأندلس، ولكن عرقلت ذلك الظروف الداخلية للدولتين، سواء بوفاة قايتباي ونشوب فوضى حكم من بعده، أو بالصراع الداخلي على العرش العثماني في نهايات عهد بايزيد، والتفات خلفه سليم الأول لتوجيه قوته الضاربة ضد جيرانه المماليك.
يحتج العثمانيون الجدد بشخصيتين من التاريخ الإسلامي في البحر المتوسط، هما عروج باشا وأخوه خير الدين بارباروسا، باعتبار أن أعمالهما تمثل دليلًا على أن العثمانيين كانوا مجاهدين في سبيل الله، يدافعون عن مسلمي الأندلس. لقد أجاد العثمانيون استغلال العاطفة الدينية، فاستغلوا أعمال الأخوين عروج وخير الدين لصالح دعايتهم بأنهم -العثمانيين- هم “درع الإسلام وسيفه”.
فعروج وخير الدين لم يكونا عثمانيين، بل كانا من مواليد اليونان، وقد استهوتهما حياة البحر والمغامرة، فكوّن عروج سنة 915هـ / 1510م أسطولًا صغيرًا من عشر سفن وطاقمًا ضمّ تُركًا -من العثمانيين وغيرهم- وعربًا وعناصر من البربر، بل من الأوروبيين الذين اعتنقوا الإسلام، وراح يمارس القرصنة ضد السفن الأوروبية في شرق المتوسط وجزر اليونان.
جدير بالذكر أن في ذلك الزمن كانت القرصنة أحيانًا ما تُمارَس لأغراض أصبح يُنظر إليها اليوم على أنها وطنية، بمعنى أن القرصان يتخصص في مهاجمة سفن أعداء بلاده -وهو أمر كان مألوفًا سواء بين القوى الإسلامية وتلك الأوروبية أو حتى في حروب الأوروبيين ضد بعضهم بعضًا، كحروب إسبانيا وإنجلترا مثلًا-، وأصبحت مهنة يُنظر لها بكل استهانة، والاعتماد عليهم في عمليات سطو ونهب.
وكان لعروج نشاطه غربًا، وسهُل الاصطدام بالإسبان، ومن ناحية أخرى لتتبّع السفن الأوروبية غربًا واصطيادها. وأقام له إمارة مستقلة في جزيرة “جربة” في تونس، ولكي يُضفي شرعية على أعماله، دخل في خدمة باي/حاكم تونس وأبدى ضروبًا من الشجاعة والحنكة في تصديه للعدوان الأوروبي على شماليّ إفريقيا، حتى استغاث به الجزائريون لإنقاذ ميناء “بجاية” من أيدي الإسبان فحرّره منهم، وجعله مركزًا لعملياته، ثم نقل هذا المركز إلى مدينة جيجل الجزائرية. كل هذا بجهوده الذاتية وباسمه، وليس باسم العثمانيين الذين كانوا آنذاك زاهدين في ممارسة النشاط البحري غرب المتوسط، وله مصالحه الخاصة، ولا سيما وهو القادم من ألبانيا.
وراح عروج يحارب على جبهتين: فكان من ناحية يستغل فوضى الإمارات والمدن في شماليّ إفريقيا والمغرب الأوسط لإسقاط حكوماتها وفرض سيطرته عليها، ومن ناحية أخرى استمر في تحرير الثغور الإفريقية الشمالية من الحاميات الأوروبية المحتلة. ثم يأتي من يقول إن الدولة العثمانية سيطرت على البحر الأبيض المتوسط ومعاركها فيه بجيشها، ولم يكن لعروج وأخيه أي دور في إنقاذ الدولة نفسها من كوارث القرصنة والإمبراطوريات الأوروبية. لذلك تُرك له الحبل على الغارب.
ولكن عروج لقي نهايته قرب مدينة تلمسان، حيث حوصر من القوات الإسبانية وتعرض للخيانة من الداخل، فحاول الفرار إلى مدينة الجزائر حيث تتبعه الإسبان ليستشهد في الطريق. ولتنتقل القيادة إلى أخيه “خير الدين”. تلفت خير الدين حوله فوجد أنه قد أضحى قائدًا على قوة ضعفت كثيرًا عمّا كانت عليه، وسط جو من المؤامرات والخيانات، وتهديدات إسبانية مستمرة، فضلًا عن أن شعبيته كانت أقل من تلك التي حظي بها أخوه، ولكن يبدو أنه كان أكثر واقعية وعملية من الأخ الراحل، وهنا بدأ دور الدولة العثمانية في القصة.
فقد قرر خير الدين الانضواء تحت راية العثمانيين باعتبارهم “السادة الجدد”، فراسل سليم الأول سنة 897هـ / 1519م، وضمّن رسالته توسلات لربط قضية الجزائر بالعثمانيين، والتماسات من القضاة والفقهاء والأعيان ومختلف الفئات للسلطان بأن يضع الجزائر تحت تصرفه، بلغت حد أن وصفوا أنفسهم بأنهم “عبيد للدولة العثمانية” (وهي رسالة كتبوها بأمر من خير الدين وليس من تلقاء أنفسهم)، وختم رسالته بأنه كان ليتوجه بنفسه إلى إسطنبول ليمثل بين يدي السلطان، لولا توسُّل الجزائريين له -خير الدين- بأن يبقى بينهم ليحمي بلادهم.
ثم يأتي من يقول إن سلاطين الدولة ومواقفهم تجاه مسلمي الأندلس جاءت لإنقاذهم، ولكنها كانت مثقلة بالأحداث السياسية، وصعب أن يتوجه جيشهم للدفاع عنهم!
لم يتردد سليم الأول في تلقف الفرصة، فمن حيث لا يدري، وجد قطاعًا كبيرًا من موانئ غرب المتوسط يفتح له ذراعيه بغير تكلفة، فأرسل إلى خير الدين تقليدًا على حكم الجزائر، وفرمانًا بتلقيبه “بكلربك” -وهو أرفع لقب لوالي عثماني-، وبعث له بألفيّ جندي إنكشاري يساعدونه.
وبسبب ذاك التعيين أو الفرمان، يعتبر المؤرخون أن الجزائر التحقت بالدولة العثمانية، وأن السلطان العثماني عندما أرسل الجيش إلى خير الدين في نفس التاريخ، كان ذلك تأكيدًا على قوة العثمانيين، وحتى تتم المحافظة على هيبتهم في المنطقة.
كانت صفقة رابحة للطرفين إذًا؛ فخير الدين لم يعد قرصانًا أو محاربًا جوالًا، بل صار واليًا وقائدًا عثمانيًا، والعثمانيون ربحوا أرضًا بثمن لا يُذكَر.. بل وزادوا، فعيّنوا خير الدين قائدًا لأسطولهم لاستغلال مواهبه ومهاراته، رغم أن الأهالي طالبوا العثمانيين بتركه مرابطًا في شماليّ إفريقيا لشدة احتياج الجبهة لوجوده وقيادته. ولكن العثماني -كالعادة- قدّم مصلحته على مصلحة الولاية.
صفقات تتوالى ومصالح مع أوروبا عن طريق قراصنة البحار، فهل حقق سلاطين الدولة مقولة: “نصرة الأندلس”؟. بإضفاء السيادة العثمانية -ولو اسميًا- على الجزائر، صار غرب المتوسط مسرحًا للقتال بين العثمانيين من ناحية، والدولة الإسبانية على رأسها آل هابسبورغ من ناحية أخرى.
وهنا يجب أن تكون لنا وقفة… فالعثمانيون الجدد يدّعون أن الدولة العثمانية قد حاربت إسبانيا عقابًا لها على تنكيلها بالمسلمين واضطهادها لهم، ولكن الواقع التاريخي يكشف كذب هذا الادعاء…
فإسبانيا آنذاك كانت تحت حكم أسرة هابسبورغ، وإمبراطورها شارل الخامس، ولأسباب تتعلق بالمصاهرات والوراثة في أوروبا، فقد وجد شارل الخامس نفسه ملكًا على إسبانيا وألمانيا وأجزاء من إيطاليا، فضلًا عن أوروبا الشرقية. وبالفعل فقد تلقب بإمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة.
وأوروبا الشرقية هي مربط الفرس هنا، فلطالما كانت مسرحًا للعمليات العسكرية التوسعية العثمانية، مما خلق الصدام -بطبيعة الحال- بين آل عثمان وآل هابسبورغ. فكان عرض خير الدين للعثمانيين بأن يكون لهم “ذراع عسكري” مواجه مباشرة لإسبانيا من جهة البحر، بمثابة فرصة لفتح جبهة جديدة ضد عدوهم الرهيب.
بمعنى أوضح: فإن حرب العثمانيين ضد الإسبان لم تكن “حربًا جهادية مقدسة” أطلقتها الاضطهادات الإسبانية للمسلمين، بل مجرد مرحلة من صراعهم مع آل هابسبورغ.
والدليل أن مسلمي الأندلس -المعروفين بـ”الموريسكيين”- لطالما بعثوا الاستغاثات والرسائل إلى الباب العالي، ولكنهم لم يكونوا يتلقون سوى التعزيات والوعود ورسائل التشجيع المعنوي، دون أي مجهود فعلي لنصرتهم. وأقصى ما كان: تحركات رمزية عثمانية، ظاهرها “نصرة المسلمين”، وحقيقتها أنها جزء من حرب أكبر من الأندلس نفسه!
فلم يكن إذًا أمام هؤلاء المضطهدين إلا أن يستغيثوا بأمراء البحار المسلمين -المنضوين اسميًا تحت العلم العثماني-، فكان الموريسكيون يتخابرون مع هؤلاء ليدلوهم على عورات الإسبان، وكان أمراء البحار المذكورون يستخدمون تلك المعلومات لضرب معاقل العدو، قبل أن يداهم شمالي إفريقيا مستغلين ثورات الموريسكيين…
والعثمانيون، أين كانوا من كل هذا؟ كانوا يكتفون بإرسال رسائل المباركة لتلك الجهود، ويتلقون مقابلها الثناء والتعظيم دون أن يبذلوا جهدًا يُذكر، اللهم إلا إرسال بعض القادة بقوات رمزية للمشاركة في عملٍ تلقى العثمانيون الفضل عليه، بينما قد حمل عبئه فعليًا خير الدين بارباروسا -ومن خلفوه في القيادة- وجنده من المجاهدين، سواء من شمالي إفريقيا أو من الأندلسيين الفارين الذين تطوعوا معهم.
إن الدولة العثمانية قد وجهت الأمر لأمراء البحار هؤلاء بالتعاون مع البحرية الفرنسية، لماذا؟ لأن آل أنجو في فرنسا كانوا أعداء آل هابسبورغ الإسبان، الذين كانوا يدّعون الحق في العرش الفرنسي. فتحالف كل من الفرنسيين والعثمانيين ضد الإسبان. أي أن الأمر لم يكن “حربًا صليبية – إسلامية” كما روّج له دعاة العثمانيين، بل كانت حرب مصالح، وما الأمر العثماني لقادة البحر في شمالي إفريقيا بمضايقة الإسبان إلا دعمًا لفرنسا الحليفة بطريقة “أعداء أعدائي هم أصدقائي”، ولكن كان لسان حال العثماني يقول: “دعنا نُضفِ على ذلك ذريعة الجهاد لنصر المسلمين المستضعفين في الأندلس، لننال فوق المكسب الحربي مكسبًا معنويًا.”
الأمر إذًا بالنسبة للعثمانيين لم يكن يعدو صفقة جديدة: فتح جبهة غربية لمضايقة أعدائهم، لا تُكلّف الدولة العثمانية سوى بعض التواجد الرمزي، بينما يقوم بالعمل الفعلي غيرهم، مما يُخفّف الضغط الهابسبورغي عن الجبهة الشرقية (أوروبا الشرقية)، ويُضفي مزيدًا من البريق على الصورة الوهمية للعثماني أنه حامي حمى المسلمين في كل مكان!
“نصرة الأندلسيين” كانت بمثابة رد فعل لرسائل استغاثات الأندلسيين، وليس فعلًا من تلقاء أنفسهم، ورغم أنهم -العثمانيون- كانوا آنذاك يملكون قوات على غير ما كان يُشاع، ووجدوا فيها “مصلحة” لهم، وحتى عندما دخلوها، قاموا باستغلال جهود محلية لمجاهدين شبه مستقلين، بينما اكتفى الباب العالي بدور التسويف والوعود، ومنح مزيدًا من الوقت ليتمكنوا، وقام من وقت لآخر بإرسال قائد هنا وبضع مئات من الجند هناك، على سبيل حفظ الوجه و”إثبات الحضور”…
ولكن تلك الجيوش الجرارة التي سيقت لغزو فارس والشام ومصر والعراق وشرق أوروبا، لم يكن لها من حضور عندما وجد العثماني أن “الجدوى” من تسييرها لا تستحق -وفق رؤيته النفعية- عناء ذلك.
ذكر عدد من الباحثين ما يلي: لقد كان استغلال مأساة الموريسكيين من ناحية أنهم المنقَذون، ومن ناحية أخرى الظهور بمظهر الإنجاز والكفاح ودعم المجاهدين في البحر، وأن يتم نسب أي نجاح وتقدم باسم الدولة العثمانية.


- أحمد القضاة، نصارى القدس: دراسة في ضوء الوثائق العثمانية بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، د.ت).
- إسماعيل ياغي، الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي (الرياض: مكتبة العبيكان، 1995).
- البرت حوراني وآخرون، الشرق الأوسط الحديث: طلائع الإصلاح وتبدل العلاقات مع أوروبا 1789-1918م، ترجمة: أسعد صقر (دمشق: الناشر طلاس للدراسات والنشر، 1969).
- عبدالعزيز الشناوي، الدولة العثمانية دولة مفترى عليها (القاهرة: مكتبة الأنجلو، 1986).
- عبدالرؤوف سنو، النزاعات الكيانية الإسلامية في الدولة العثمانية 1877-1881: بلاد الشام، الحجاز، كردستان، البانيا (دمشق: بيسان للنشر والتوزيع، 1998).