الآثار بين مفاهيم

العصور الوسطى والقانون الدولي الحديث

يُنَظِّم القانون الدولي الآن أوضاع الدولة المحتلة، وسلطات وتصرفات دولة الاحتلال، ومن ضمن بنود القانون الدولي في هذا المجال ما يتعلق باحترام دولة الاحتلال لآثار الدولة المحتلة وتراثها، وعدم العبث به أو الاستيلاء عليه أو نقله خارج مواقعه الأثرية حفاظًا على التراث الإنساني. 

ورد إلى ذهني كل ذلك وأنا أراجع وقائع دخول السلطان سليم إلى مصر في عام (1517م)، وموقف العثمانيين من الآثار المصرية، هذه النقطة على وجه الخصوص كانت محل انتقاد دائم من جانب التيار القومي المصري وموقفه من الوجود العثماني في مصر.

ويعتبر كتاب حسين فوزي “سندباد مصري” من أهم الكتب التي تُعَبِّر عن وجهة نظر التيار القومي المصري تجاه الفترة العثمانية في تاريخ مصر، من هنا يبدأ حسين فوزي كتابه بالفصل المُعَنوَّن بـ”الجمعة الحزينة”، وهي الجمعة التي قُرِئَت فيها الخطبة في مساجد القاهرة باسم السلطان سليم الأول، دلالة على تحول القاهرة من عاصمة لدولة كبرى دولة سلاطين المماليك، إلى مجرد عاصمة لولاية عثمانية تُدار من استانبول.

كما يذكر حسين فوزي زيارة سليم لمنطقة المطرية الأثرية في شرق القاهرة؛ حيث قام سليم بالتبرك من ماء بئر البلسان. لكن فوزي يركز على عدم اهتمام سليم بالمسلة الأثرية هناك، لأنه لم يفهم معنى شموخها في السماء، كما لم يهتم بسماع قصة استراحة يوسف النجار ومريم العذراء والمسيح الطفل في ظلال الجميزة الألفية. هكذا ينظر التيار القومي المصري إلى سليم على أنه غازي “جِلف” لا يتفهم معاني الحضارة المصرية.

من هنا يشير فوزي إلى الروايات التاريخية التي تحدثت عن عمليات السلب والنهب ومصادرة العثمانيين الآثار والتحف المصرية النادرة، ومن أهم تلك الوقائع قصة الاستيلاء على الخيمة المخصصة للاحتفال بالمولد النبوي وبيعها، وكيف تحولت إلى مفارش وقطع قماش.

كما يذكر فوزي عمليات سلب الرخام الفاخر الأثري من القلعة؛ حيث أمر سليم بفك الرخام النادر من قاعات القلعة وتم وضع ذلك في صناديق، وحمل إلى المراكب لنقله إلى استانبول. كما يشير فوزي أيضًا إلى استيلائهم على بعض المخطوطات النفيسة من مكتبات المدارس الشهيرة.

ويركز فوزي على مقولة المؤرخ ابن إياس المعاصر للحدث؛ إذ قال:
“حملت مراكب سليم بن عثمان حتى الشبابيك الحديد، والطيقان والأبواب والسقوف. وحمل سليم معه بطريق البر على ألف جمل- كما أُشيع- أحمالاً من الذهب والفضة والتحف والسلاح والنحاس المكفت… وكذلك غنم وزراؤه من الأموال الجزيلة، وكذلك عسكره فإنهم غنموا من النهب ما لا يحصى”.

وهكذا يصوِّر فوزي دخول العثمانيين إلى مصر، ليس فقط على أنه غزو واحتلال، ولكن يشير إلى نقطة هامة وهي تعامل دولة الاحتلال مع التراث، وهي نقطة هامة ومثيرة توضح التناقض بين قوانين العصور الوسطى والقانون الدولي الحديث، وبين استعادة الحدث التاريخي على ضوء معطيات عصره ومعطيات الفكرة القومية الحديثة.