"محاولة القضاء على الدولة السعودية الأولى"

اهتمت الدولة العثمانية بما كان يجري ويحدث داخل شبه الجزيرة العربية من تصاعد النفوذ السعودي وتوسعه في أقاليمها المختلفة، وما تبعه من بروز النهضة السياسية والدينية في وسط الجزيرة العربية. وكان الاهتمام العثماني بالشأن السعودي منذ منتصف القرن الثاني عشر الهجري/ منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، إذ أصبحت ترقب عن كثب كل تلك التطورات والتحركات التي كان يقوم بها السعوديون وذلك من خلال ما كان يصل للآستانة من الولايات العثمانية المحيطة بالجزيرة العربية، ومن داخل الجزيرة العربية عبر المسؤولين والمخبرين والمغرضين على هيئة المئات إن لم تكن الألاف من التقارير والرسائل، التي كانت تحمل في طياتها الكثير من الأخبار والمعلومات الاستخباراتية عن الأوضاع في الدولة السعودية، وفي أغلبها معلومات مكذوبة ومفتراة أو مغلوطة أو مشوهة، والتي -في رأينا- شكلت بدورها مع مرور الوقت  رأيًا عامًّا في الباب العالي ضد الدولة السعودية الناشئة، شوهت خلالها حقيقتها الناصعة في توحيد البلاد بعد التشرذم المزمن، والعمل الجاد على نهضتها من جديد وبناء كيان سياسي موحد على أسس دينية صافية المنابع بعيدة عن الأهواء والأدواء.

أدرك العثمانيون أن وجود كيان سياسي قوي موحد في الجزيرة العربية سوف يقوض سلطتهم ومصالحهم الاستراتيجية والاقتصادية هناك، إضافة إلى فقدهم المكانة الدينية في العالم الإسلامي. والواقع إن تلك العوامل مجتمعة أسهمت بأن جعلت الدولة العثمانية تقود خيارًا واحدًا لا ثاني له ألا وهو الخيار العسكري في محاولة القضاء على هذا الكيان العربي الناشئ. والحقيقة أن من يسبر أغوار الوثائق العثمانية الواردة إلى الباب العالي والصادرة منه سيجد فيها كمًّا مهولاً من الكُره والبُغض والافتراء والسب والشتم لكل ما هو سعودي.

وكان المنطلق الأول لشن الحملات على الدولة السعودية الأولى ولاية بغداد العثمانية، وذلك بعدما أصدر السلطان محمود الأول فرمانا همايونيا لشن الحملات العسكرية ضد الدولة السعودية سنة (1201ه/1786م)، وكُلف  بموجبه والي بغداد سليمان باشا للقيام بهذه المهمة العسكرية، ولو نظرنا إلى تاريخ الحملة العسكرية لوجدنا أنها كانت في فترة مبكرة نسبيًّا من بدء الحملات الموجهة لاستهداف الدولة السعودية الأولى الناشئة،  وسليمان باشا  بدوره كلف ثويني بن عبد الله آل شبيب رئيس المنتفق ليقوم بتجهيز الحملة العسكرية الموجهة ضد السعوديين وقيادتها.

ويصف المؤرخ ابن بشر تلك الحملة بأنها كانت عظيمة العدد والعدة بجنودها وعساكرها النظامية،  وتوجهت تلك القوات الغازية قاصدة مهاجمة عاصمة الدولة السعودية “الدرعية”، فابتدر في طريقه إقليم القصيم و هاجم  فيه بلدة  “التنومة” بجيشه  الكبير وحاصر البلدة أيامًا، ودكَّها بالمدافع فلم ينجح في دخول تلك البلدة الصغيرة، التي أبدت مقاومة عنيفة وصمودًا كبيرًا من أهلها  لتلك الحملة، ولم ينفع مع ذلك غير الصمود، إلا أن ثويني استطاع أن يخدع أهل البلدة بالأمان، ولكنه لم يفِ بوعده لهم فأخذ البلدة ونهبها وقتل جميع أهلها إلا الشريد.

وتشير المصادر التاريخية إلى أن عدد القتلى قد بلغ نحو مائة وسبعين رجلاً. ثم توجه بحملته العسكرية إلى مدينة بريدة وقاتل أهلها وحاصرها بجنوده، إلا أنه رجع عنها بعدما وقع خلاف في موطنه على زعامة القبيلة إذ انتقض عليه ابن عمه فاضطر للانسحاب بجيشه. ويظهر للقارئ مدى حجم الحملة العسكرية الأولى وقوتها التي حاولت أن تبث الرعب في السعوديين وأن تكسر همتهم وشوكتهم إلا إن الأمور لم تأت على ما كان يهوى المعتدي، ففشلت الحملة العسكرية فشلاً ذريعًا أمام الدولة السعودية التي بدورها انتهزت الفرصة لترد العدوان بمهاجمة أطراف العراق العثماني والمعاملة بالمثل، ولم تزد تلك الحملة السعوديين إلا إصرارًا على التمسك بدولتهم والتوسع في توحيد بقية أجزاء الجزيرة العربية رغم كيد الكائدين وعدوان المعتدين.

وقد تتابعت تلك الحملات العسكرية من جهة العراق العثماني تنفيذًا لأوامر مشددة من السلطان العثماني فيما بين سنتي (1212هـ/1797م) و(1213هـ/1798م) ولضرب السعوديين مرة أخرى والقضاء عليهم، فسيرت الدولة العثمانية حملتين ضد السعوديين في الأحساء، حيث كُلف ثويني بن عبدالله مرة أخرى ليقوم بتجهيز حملة عسكرية لمواجهة السعوديين ومهاجمة الدرعية واسترجاع الأحساء، إلا أن عوامل الفشل هذه كانت تسير مع تلك من  حيث التباين الكبير في عناصرها، وخاصة بين زعماء بني خالد، الذين مال ثويني إلى بعضهم دون الآخر، لذا كانت النتيجة الغدر بثويني وقتله في موقع الشباك، وهذا الاغتيال كان كفيلاً باضطراب الحملة، واختلال صفوفها، وعودتها من حيث أتت، دون أن تحقق أهدافها وكفى الله بذلك الدولة السعودية شرها.

وأما الحملة العسكرية الأخرى، فكانت بقيادة علي الكيخيا “نائب والي بغداد”، والتي كانت مدعمة بمختلف الأسلحة والعتاد. وضمت الحملة القوى العسكرية النظامية المختلفة، والقوى العشائرية الكردية والعربية، وقد قدر المؤرخ العراقي “العمري” تلك القوات مجتمعة بأنها بلغت حوالي عشرين ألف مقاتل. كما شاهد المقيم البريطاني في بغداد “هارفرد جونز Harvard Johns” الاستعدادات الكبيرة للحملة التي كانت تخيم خارج أسوار بغداد على الشاطئ الغربي لنهر دجلة وبعدما استكمل علي كيخيا استعداداته غادر بغداد بجيشه الكبير؛ متوجهًا نحو البصرة، وهناك انقسمت إلى قسمين القسم الأول يضم الفرسان والقوى العشائرية وقصد بهم قائد الحملة العراقية على الكيخيا الأحساء براً. وأما القسم الآخر، فهو يضم فريق المشاة والمدفعية والذخائر الثقيلة، حيث استأجر القائد المذكور بعض السفن التي أبحرت بها نحو ميناء العقير على شاطئ الأحساء.

والواقع أن الحملة العسكرية بقسميها البري والبحري واصلت مسيرتها حتى دخلت أراضي الأحساء بعد الكثير من المعاناة والمتاعب، التي واجهتها في طريقها لبلوغ الهدف. وما كان علي الكيخيا أن يقترب من الأحساء، حتى قامت الحملة بمهاجمة الحصون السعودية وفرضت الحصار عليها مدة ثلاثة أشهر، إلا أن الحاميات السعودية استطاعت الصمود بقوة أمام هجمات الحملة العنيفة. وكان لهذا الصمود أثره السيئ في نفسية جنود الحملة، إذ أشار إلى ذلك المؤرخ العراقي “الكركوكلي” بقوله:” ولما كانت القوات الحكومية تعسكر في واد غير ذي زرع .. فقد نجم عن ذلك هزال الجمال، وقعودها عن حمل الأثقال، وهلك منها ما يقرب من تسعة آلاف بعير، وتناقصت الذخائر والمعدات…وراح الجنود يفكرون في مصيرهم والهلاك الذي ينتظرهم… وذهبوا إلى رؤسائهم يلحون عليهم بضرورة الإسراع في العودة لعدم وجود فائدة من بقائهم هناك…”. ورجعت الحملة العثمانية بعد عدة أشهر ولم تحقق أي انتصار أو هدف يذكر، وكانت نتيجتها الوحيدة هي عقد هدنة وصلح بين ولاة بغداد العثمانيين والسعوديين.

أعطى فشل الحملات العسكرية العثمانية تصورًا آخر عن الدولة السعودية الأولى للعثمانيين وغيرهم بأنها قوة لا يستهان بها وأنه ليس من اليسير هزيمتها. فالعقيدة التي جمعت الناس تحت رايتها الموحدة والحكم بشرع الله وأثره في حالة الأمن والاستقرار الذي عاشه مجتمع الجزيرة كان كفيلاً ببيان أنه ليس سهلاً الفت في عضد هذه الدولة، كما ضرب الصمود السعودي في مواجهة الحملات العسكرية مثالاً يحتذى به ضد الغزاة.