"المتبرمكون" في عصر الدولة العباسية

اتهموا بإضمارِ مجوسيتهم وممارسة طقوسهم في سراديب قصورهم

لكل بداية نهاية. هذه المُسَلَّمة الوجودية تنطبق على الأثر السلبي الذي تركه البرامكة في جسد الدولة في غفلةٍ من خلفاء بني العباس، الذين لم يستوعبوا -إلا متأخرين- أن البرامكة يعملون لتمكين العرق الفارسي، ويجتهدون في الإطاحة بعرش العباسيين انتقامًا من المسلمين العرب، الذين طالما رأوا فيهم سببًا رئيسًا في سقوط آخر إمبراطورية فارسية على يد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

لقد وصل تغلغل البرامكة في السلطة والبلاط إلى درجة أصبح معها الجميع يعتبرهم “الدولة الظاهرة”، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن أطلقوا عليها “دولة البرامكة” على عهد الخليفة هارون الرشيد. ويمكن القول بأن البرامكة كادوا أن يقطعوا وريد الدولة العربية عندما أصروا على تولية المأمون منصب ولاية العهد، بالنظر إلى أن أمه كانت فارسية ولأنه تربى على يدي جعفر بن يحيى.

كان للبرامكة دولةٌ (ظاهرة) داخل دولة بني العباس، يمارسون من خلالها سلطتهم وتسلطهم.

وفي هذا السياق، لم يكتف البرامكة بالتحكم في مفاصل السلطة السياسية والاقتصادية حتى البلاط العباسي، فانتبهوا إلى قوة ما يعرف اليوم بـ “الحرب الإعلامية”، لذلك جندوا مَنَ شاعت مآثرهم ومن ويُثْنَى على إنجازاتهم، وقدموهم للرعِية باعتبارهم أصحاب الدولة الفعليين، ومِنْ ثم ليضمنوا ولاء العامة لتسهيل تمرير الأفكار المجوسية الخبيثة، ومن هنا كان النجاح في التحكم في القاعدة بعدما نجحوا في التحكم في القمة، ولو إلى حين.

  وجد بنو برمك في الحكماء والعلماء والشعراء طريقهم إلى مجالس العوام، فأغدقوا عليهم العطايا والهدايا، فكانوا سبيلهم إلى قلوب بعض الناس. ويُفصِّل الحافظ السيوطي في هذه النقطة فيقول: “كاد ألا يوجد أحد من العلماء والحكماء والعظماء والندماء إلا وللبرامكة عليه كرمٌ نَمَا كماء السماء، وتكرم جعفر بخمسين ألف دينار من الذهب وتكرر منه كثيرًا في ولايته كلها… حتى صار يُضرب بهم المثل الأكبر بقولهم: تَبَرْمَكَ فلان”.

والقول الفصل في حقيقة الأهداف السياسية التي سطرها البرامكة، قد يصعب التسليم بها والقطع في حقيقتها، بالنظر إلى سكوت مؤرخي تلك الحقبة عن تفاصيل تتناول المطبخ السياسي للدولة العباسية وأفراد من الأسرة الحاكمة (العباسة، الخيزران، زبيدة والرشيد). فذهب البعض إلى القول بوجود ممارسات سرية للبرامكة تجعلهم يصنفون خارج دائرة الإسلام، وأنه “وجدت في جميع مساكن البرامكة سراديب خفية لا يطرقها غيرهم. وأنه كان يوجد هيكل سري تضيء أمامه شعلة مستديمة في إناء “نواسة” من الذهب يؤدون أمامها سرًّا طقوسًا دينية مجهولة ويقدمون الذبائح التي لا تمت للإسلام بشيء”.

وإذا كان هناك من المؤرخين من يطعن في هذه الرواية، فإنه الثابت أن البرامكة لم يروا في أنهم “موظفين” في الدولة أو رجالها على أعلى تقدير، وإنما تصرفوا على أنهم أصحابها الفعليون، ولم يخفوا حقدهم تجاه كل ما هو عربي ولو كان الخليفة العباسي نفسه، رغم أنهم مارسوا التقية السياسية بدهاء ومكر، وسعوا إلى تمكين الأتباع، ومن ثَمَّ التحكم في مفاصل البلاط، كما سعوا إلى استمالة أهل الحل والعقد وبقية “المؤثرين” لتوجيه دفة القرار السياسي.

ويمكن القول بأن البرامكة قد نافسوا خلفاء بني العباس في السياسة والحكم حتى صاروا حديث الألسن، وتناقل سيرتهم الرواة والشعراء الذين اجتهدوا في التقرب منهم والتزلف إليهم. وكان البرامكة “يبعثون الشعراء، ويغرونهم بالقول فيهم، وكان الشعراء لا يتورعون عن الوقوف بأبوابهم، والإنشاد أمامهم، مهما تكن منزلتهم في الشعر أو في الدولة أو في مجالس الخلفاء أو عند العلماء…؛ لأن منزلة البرامكة السياسية، ومركزهم الاجتماعي، وحالتهم الاقتصادية… وعظيم عطائهم… جعل من شعرائهم ألسنةً تنطق بفضل البرامكة على الإسلام وعلى الدولة”.

ووصل الأمر ببعض الشعراء إلى حد المبالغة في مدح البرامكة ورفعهم إلى مرتبة أعلى من الخليفة نفسه. فنجد شاعرًا مثل أبي نواس يقول في الفضل بن يحيى البرمكي قاصدًا هارون الرشيد:

لقد تمكنت السلطة من قلوب البرامكة، وظنوا أن المناصب والأموال قادرة على تكريس سيادتهم على القرار السياسي العباسي، فأثاروا بذلك نقمة العامة واستجلبوا غضب الخليفة وحرمه وشرفاء بني هاشم، ليستيقظ البرامكة على نكبة لم يحسبوا لها حسابًا ولا وضعوا لها تخمينًا. ولعل الثقة الزائدة التي بدأ يتصرف بها البرامكة وزلات لسان جعفر بن يحيى تحت تأثير “سكرات الحب”، قد عجلت بنقمة هارون الرشيد على هذه العائلة الفارسية، فما هي إلا ليلة أو ضحاها حتى طار رأس جعفر، وحُفرت الحفر ليحيى البرمكي وابنه الفضل، وتشتت جمع البرامكة في الأمصار، ومن ثَمَّ سقطت أخطر المشاريع الفارسية للإطاحة بالدولة العربية ممثلة في الدولة العباسية.

  1. أحمد أمين، هارون الرشيد (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2014).
  2. صالح رمضان، “النهج الشعوبي لدى البرامكة”، مجلة أبحاث كلية التربية الأساسية، جامعة الموصل، ع.4 (2010).
  3. قويدر بشار، دور أسرة البرامكة في تاريخ الدولة العباسية (الجزائر: معهد التاريخ، 1985م).
  4. علي العمرو، أثر الفرس السياسي في العصر العباسي الأول (القاهرة: مطبعة الدجوي، 1979).
  5. محمد دياب الأتليدي، إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس (بيروت: دار صادر، 1990).
  6. محمد برانق، البرامكة في ظلال الخلفاء (القاهرة: دار المعارف، د.ت).