البرامكة والدولة العباسية

"دولة داخل الدولة"!

تُعَدُّ قصة البرامكة مع الدولة العباسية واحدةً من أهم الأحداث السياسية في تاريخ الدولة العباسية. وترجع أهمية هذا الأمر إلى أنه كان كاشفًا عن رغبة العباسيين الدائمة في الحفاظ على كيان الدولة، وعدم السماح بِتَكَوُّن مراكز قوى تصبح -مع مرور الوقت- “دولة داخل الدولة العباسية”. لكن الأكثر أهمية في تلك الأحداث أنه بدا جليًّا أمام الخلفاء العباسيين، بل العنصر العربي عامَّةً، أن المكوِّن الفارسي أصبح يمثل خطرًا داهمًا على دولة الخلافة، وأن سَعْيَ الفرس إلى استعادة مجدهم القديم، قد اختلط بداء العنصرية تجاه العرب، وأنه لا يمكن أن تكون للدولة “رأسان”. فمن هم البرامكة؟! وما قصتهم مع الدولة العباسية، خاصةً في عصر هارون الرشيد؟!

يرجع أصل أسرة البرامكة إلى إقليم خُراسان في فارس، هذا الإقليم الذي ساند الدعوة العباسية؛ نكايةً في الدولة الأموية، هذه الدولة التي -في رأي الفرس-، أَعَزَّت العرب ورفعتهم إلى مكانة عُليا، وأبعدت الفرس عن دواوين الحكم. ولا نستطيع تفهم قصة البرامكة ونهايتهم إلا إذا تذكرنا دور أبي مسلم الخراساني “الفارسي” الذي ساند الدعوة العباسية في بدايتها، وكان الذراع اليمنى للخليفة أبي العباس السفاح. لكن نفوذ أبي مسلم الخراساني تعاظم في أرجاء الدولة، وخشي الخليفة المنصور على هيبة الدولة، فأمر بقتل أبي مسلم الخراساني.

وتَذْكُرُ المصادر التاريخية أن أول من دخل من البرامكة في خدمة العباسيين هو الجد خالد، ووصل خالد البرمكي إلى منصب المستشار للخليفة المنصور، وهو منصب يتيح له أن يكون مؤثرًا في صناعة القرار.

وفي بدايات عصر الخليفة هارون الرشيد عاد النفوذ الخراساني الفارسي من جديد من خلال أسرة البرامكة، وهي أسرة ترجع أصولها إلى مدينة بلخ في إقليم خراسان، وبدأ نفوذ البرامكة يزداد في عصر هارون الرشيد، وخاصةً مع يحيى البرمكي؛ إذ أصبح صاحب الكلمة العليا في أمور البلاد والعباد وتولى أمر الوزارة، وهي وزارة تفويض. ولأول مرة أصبح ليحيى البرمكي سلطة مكاتبة عمال الولايات مباشرةً، وهو حق كان للخليفة وحده من قبل. واستغل يحيى قربه من هارون الرشيد، وأنه هو الذي تولى تهيئة الرشيد سياسيًّا، وتعليمه فنون الحكم والإدارة، في التعظيم من شأن البرامكة ونفوذهم، والدور الفارسي في الحكم بصفةٍ عامة.

ولا أدل على عمل البرامكة سرًّا وعلانيةً على إعادة المجد الفارسي على حساب الدولة العباسية، والعنصر العربي بوجهٍ عام، من انحياز البرامكة وتأثيرهم على هارون الرشيد لدفعه إلى التوصية بولاية العهد إلى المأمون لأن أمه فارسية. وقد أثار هذا الأمر حفيظة العنصر العربي، لا سيما زبيدة زوجة هارون الرشيد، التي عملت على أن تكون ولاية العهد لابنها الأمين لأنه هاشمي الأبوين، ولم تختلط دماؤه بالعنصر الفارسي.

من هنا بدأ العنصر العربي في التعبير عن امتعاضه من تعاظم دور البرامكة، لا سيما جعفر بن يحيى البرمكي، ومن خوف العنصر العربي أن يتولى المأمون الحكم، فيصبح ألعوبة في يد البرامكة الفرس. وهنا أدرك هارون الرشيد مدى خطر تعاظم نفوذ البرامكة، وأنهم أصبحوا “دولة داخل الدولة”. وخاف هارون الرشيد من غضب العنصر العربي وهُمُ الأساس الشرعي للدولة، فالخلافة من قريش، ولكن مع البرامكة ستضيع هيبة الخلافة، وسيضطر العنصر العربي إلى الدفاع عن الخلافة من تغول العنصر الفارسي.

هكذا أدرك هارون الرشيد ضرورة التحرك سريعًا والتخلص من البرامكة، فأمر بإلقاء القبض عليهم ومصادرة ثرواتهم. ونجح الرشيد في القضاء على نفوذ أسرة البرامكة، الذي كان قد استشرى في أركان الدولة، وأصبح يهدد بحدوث فتنة بين العنصر العربي -المكوِّن الأساس للدولة-، والعنصر الفارسي.

وقد انعكس ما قام به الرشيد من القضاء على البرامكة على صورته التايخية، لا سيما في المصادر الأدبية، وعلى رأسها حكايات ألف ليلة وليلة؛ إذ عمد الكُتَّابُ الفرس على تشويه صورة هارون الرشيد وإظهاره في صورة الخليفة اللاهي العابث، الذي يمضي وقته في الشراب، وحوله الجواري الحسان، ويهمل شؤون الدولة من أجل سماع الغناء ومشاهدة الراقصات!

وعلى عكس الصورة السابقة، تقدم لنا معظم المصادر التاريخية الموثوق بها صورةً أخرى عن هارون الرشيد، أنه “غازٍ وحاج”؛ لأنه كان يغزو عامًا في سبيل الجهاد، ويحج إلى بيت الله في العام الذي يليه. هكذا لعبت العنصرية الفارسية دورًا في تشويه صورة هارون الرشيد بسبب موقفه من البرامكة، وحرصه على هيبة دولة الخلافة.