معركة الحلوة.. أنموذجًا مشرفًا لمواجهة الأتراك 1253هـ/1837م
لم تمضِ سبع سنوات على تدمير العاصمة السعودية “الدرعية” بفعل الحملات التركية، إلا وعادت المقاومة السعودية نشطة مرة أخرى بقيادة الإمام تركي بن عبد الله آل سعود، الذي أعلن الحرب على الحاميات التركية في البلاد النجدية منذ عام 1238ه/ 1823م، وجعل من بلدة الحلوة في جنوب نجد مركز انطلاقته لتحقيق ذلك الهدف الكبير.
ولم تغب عن مُخيّلته ما لقيه الأهالي من الأعمال الوحشية والجرائم غير الإنسانية من القوات التركية الغازية، كل ذلك ألقى على عاتقه مسؤولية جسيمة في سبيل تحرير الوطن من تلك الحاميات التركية البغيضة، وبالفعل تمكّن من ذلك بجهاده ونضاله وتعاون الأهالي ودعمهم له، فلم يأتِ عام 1240ه/ 1825م، إلا وتمكن من إجلاء القوات الغازية وحامياتها المجرمة من نجد، وليبدأ دور جديد للدولة السعودية الثانية، ولتسترجع بقيادة الإمام تركي بن عبد الله مكانتها السياسية والسيادية في الجزيرة العربية عدا الحجاز.
كان النجاح الحقيقي الذي حققه الإمام تركي بن عبد الله هو حُسن تعامله مع الأخطار المحدقة بالدولة الناشئة ومجابهتها بكل حكمة وحنكة واقتدار، كلّلت مساعيه بتكوين الدولة الجديدة، ذلك ما جعل محمد علي باشا ينظر إليه باعتباره خطرًا جديدًا يهدد مصالحه التوسعية في الجزيرة العربية.
شجّعت نشوة الانتصار الذي حققه محمد علي في الشام وابتلاعه إياه، على استكماله خطَطَه التوسعية والاستقلالية، ومنها العودة مرة أخرى إلى الجزيرة العربية متذرعًا بشتى الذرائع، فالوثائق التاريخية أشارت بوضوح إلى أن عزمه القضاء على الدولة السعودية الثانية بعد بروز نجمها مرة أخرى، بل هناك من الدلائل ما يؤكد ضلوع محمد علي باشا في مؤامرة اغتيال الإمام تركي بن عبد الله سنة 1249ه/ 1833م.
ولذا بعد نجاح الإمام فيصل بن تركي في تولي زمام الأمور بعد والده، قام محمد علي باشا باستئناف الحملات العسكرية ضد الدولة السعودية، ففي سنة 1252ه/ 1836م، اجتاحت الحملة العسكرية نجد بقيادة اسماعيل بك، بهدفها المُعلن وهو معاقبة الإمام فيصل بن تركي لرفضه تقديم الدعم اللوجستي لقوات محمد علي الغازية في الحجاز، والحقيقة أن ذلك السبب اتُّخذ ذريعة لإسقاط الدولة السعودية الثانية، والانطلاق بعدها نحو الخليج العربي والعراق العثماني بهدف تحقيق رغبة محمد علي وطموحه في تكوين إمبراطورية كبرى في المشرق العربي.
جاءت معركة الحلوة في سنة 1253ه/1837م، التي تعد إحدى أبرز المعارك الخالدة في ذاكرة التاريخ السعودي وفي فن مقاومة الغزاة الأجانب، وترى المصادر التاريخية أن سببها الحقيقي ذلك الموقف البطولي الرائع الذي وقفه أهالي الحوطة والحريق، برفضهم الانسياق لحملة إسماعيل بك ولمن تخاذلوا ممن انضموا إليه، ولتُعطي إسماعيل بك وجيشه درسًا لا يُنسى في الذود والدفاع عن الأوطان، والثبات ضد الغزاة الذين تمكّنت منهم المقاومة السعودية وأذهبت رياح جيشهم شذر مذر، وقاد تلك المقاومة زعماء بلدان جنوبي نجد وأهاليها (الحريق، والحوطة، والحلوة، ونعام)، وألحقوا بالجيش الغازي هزيمة نكراء وكانت ضربة مؤلمة له فقُتل من الحملة العسكرية الغازية أكثر من ثلاثة آلاف مقاتل.
ويصف المؤرخ النجدي ابن بشر الأمر بقوله: “وسار أهل البلد أعني أهل الحلوة ومن معهم على الذين دخلوا البلد وقت الهزيمة فحصل قتال شديد يشيب من هوله الوليد واستولى إبراهيم وأتباعه على المدافع ورموها من رأس الجبل، فنزل النصر من السماء وأول من انهزم الأعراب الذين مع العسكر ثم وقعت الهزيمة على الباقين وهلك أكثر الجنود قتلا وظمأً، وتفرّق الخيّالة في الشِّعاب، فهلكوا فليس لهم دليل..”.
وأيدت الوثائق التركية ما قاله ابن بشر في وصفه المعركة، فوصفتها بالعنيفة وبالقتال الضاري بين الطرفين، فكان النصر من الله ولثقة أهالي جنوبي نجد بالله قبل كل شيء ثم بأنفسهم رغم القلة عددهم وعتادهم، إضافة إلى تنسيقهم العسكري فيما بينهم، وصمودهم في وجه الأعداء كان أكبر محفز لتحقيق النصر.
ومن خلال استقراء الأحداث وثائقيًّا يتضح للقارئ أثر تلك الهزيمة التي تلقّتها القوات التركية، وتأثيرها المعنوي على القادة الترك حتى غدت “معركة الحلوة” هاجسًا ورُعبا أحاط بهم من كل جانب خشية انتفاض البلدان النجدية الأخرى ضدهم، وظهر ذلك بوضوح في المراسلات والخطابات المتداولة فيما بين محمد علي باشا وقياداته العسكرية في الجزيرة العربية، ولعل فرار قائد الحملة العسكرية إسماعيل بك مع قادته من أرض المعركة طلبًا للنجاة من الهلاك خير دليل على تلك الروح المنهزمة.
وفي الواقع فإن هذه المعركة أظهرت المعدن الحقيقي لأهالي جنوب نجد وحقيقة انتمائهم إلى الدولة السعودية، وولائهم لقيادتها السياسية والدينية، وحرص الأعيان والأهالي على بعضهم البعض وتكاتفهم في سبيل مواجهة الغزو الخارجي والتصدي له بكل سلاح وعتاد وقوة وبسالة وبطولة لمكافحة غزو المعتدي، وقد ضرب أهالي جنوبي نجد أروع الأمثلة على حب الوطن وسيادتهم الحرة، وإخلاصهم وولائهم لقيادتهم السعودية.