معركة ذي قار

دروس عربية في "فن" الاستراتيجية العسكرية

ليس الغرض من دراسة تاريخ المعارك الكبرى إعادة اجترار ما كُتب في مؤلفات التاريخ، أو تنميقها بعبارات وكلمات توجد على قارعة الطريق، وإنما الهدف هو استقراء الأحداث وفهم البواعث واستخلاص الدروس. ولعل العودة إلى كتابات كارل فون كلاوزفيتز أو هنري دي جوميني تفيد بأن رسم النظريات الاستراتيجية جاء نتاجًا لتحليل عشرات المعارك والحروب، ومن ثم استخلاص ما أطلق عليه بـــ “فن الحرب”.

يعدُّ تحليل معركة ذي قار مقدمة للوصول إلى مجموعة من الخلاصات التي أغفلها معظم من تناول هذه المواجهة العربية-الفارسية. وهو التقصير الذي يُسأل عنه الباحثون العرب، خاصة ممن ادعوا التحليل الأمني والاستراتيجي. ولعل الاطلاع على مجموعة من المدارس الاستراتيجية (ليدل هارت) يقطع بأن العرب لجأوا إلى تطبيق مجموعة من التكتيكات الحربية التي لن يُأَصَّل لها إلى قرون طويلة بعد ذلك (نظرية مركز الثقل، نظرية الالتفاف، نظرية تفضيل الحرب الدفاعية على الحرب الهجومية…).

وقبل تفكيك المعركة من الناحية الاستراتيجية، نعيد تناول أبرز محطاتها، حسبما تواتر من الروايات التاريخية ومن ثم تحليلها حسب مفاهيم “فن الحرب” الحالية. وهنا تلتقي السرديات بخصوص معركة ذي قار حول وقوف “الجانبين متقابلين، وخرج “أسوار” فارسي يتحدى العرب للبراز، فلم يلبث طويلا حثى انبرى له فارس عربي طعنه فدقّ صلبه، فاغتاظ الهامرز وخرج بنفسه يدعو إلى البراز، فانبرى له عربي هو الحوفزان، فألقاه صريعاً”.

إن بدايات المعركة تحيل على خطأين استراتيجيين وقع فيهما الفرس. الأول مرتبط بعدم الاستفادة من التفوق العددي الكبير الذي كان سيرجح كفة الفرس إذا ما كانت المواجهة كلاسيكية مباشرة، أما الخطأ الثاني فمرتبط بسقوط مركز ثقل الجيش الفارسي ممثلاً في الهامرز وهو ما شكل ضربة قوية لمعنويات العدو الذي سيحارب دون رأس الجيش.

اللجوء إلى المواجهات الفردية تكون عادة في صالح الجيش الأقل عددًا، وهذا الخطأ سقط فيه بعد ذلك كفار قريش في مواجهة المسلمين في معركة بدر الشهيرة، التي تعد الميلاد الفعلي لدولة الإسلام.  ولا نعلم، فيما اطلعنا عليه من معارك، عن انهزام جيش استطاع الفوز في المواجهات الفردية كما جرت عادة الحروب في المنطقة.

تفادي المواجهة المباشرة وسقوط رؤوس الجيش الفارسي من الأخطاء الاستراتيجية التي وقع فيها جيش كسرى في "ذي قار".

فكان لاندحار الفرس في المواجهات الفردية آثار عكسية على تماسك وحدة جيشهم، و”ذلك مما شجع العرب وفتَّ في أعضاد الفرس، حتى أن بعض العرب الذين كانوا في الجانب الفارسي هزَّهم الحنين إلى قومهم، فعزموا أن يضمُّوا صفوفهم إلى صفوفهم”.

الدراسات الاستراتيجية في الحروب والمواجهات العسكرية؛ أسقطت من تحليلاتها، عن قصد أو غير قصد، المواجهات التي كان العرب أحد أطرافها. وإذا كان أحد أشهر المنظرين الاستراتيجيين وهو البريطاني بازل ليدل هارت قد أشار إلى أهمية الهجوم من الخلف، فإن العرب في معركة ذي قار كانوا سباقين إلى تبني هذا التكتيك العسكري. وفي هذا الصدد، كان “حنظلة قد أمر جزءًا من فرسانه بقيادة يزيد بن حمَار أن يناوروا خلف صفوف الفرس ويداهموهم من ورائهم، عندما بدأ الفرسان بالهجوم على الفرس من الخلف”. هذا التكتيك العسكري المرتبط بالهجوم من الخلف طرحه ليدل هارت في كتابه “الاستراتيجية وتاريخها في العالم”، حيث يقول: “والجيش كالرجل لا يستطيع الدفاع بصورة فعالة ضد ضربة تأتيه من الخلف، دون أن يستدير ليستخدم أسلحته ضد هذا المهاجم و”عملية الاستدارة” تجعل الجيش يفقد توازنه، وتضعه في وضع قلق بعض الوقت، وهكذا فالمخ يكون أكثر تأثرًا بكل خطر قادم من وراء الظهر”.

لقد أثبت العرب دهاءً منقطع النظير حين لجأوا إلى تكتيك الالتفاف والهجوم من الخلف، وهي التكتيكات التي تناولها جميع من نظروا إلى الحروب والمواجهة لقرون طويلة. وهنا يضيف ليدل هارت: “وتهدف حركة الالتفاف حول مجنبة العدو أو نحو مؤخرة الجيش إلى تحاشي كل مقاومة خلال تنفيذ الحركة وبعد انتهائها، وهذه الحركة تسلك “أقل السبل مقاومة”.

إن معركة ذي قار لا يمكن اختزالها في الدروس الاستراتيجية التي يمكن استخلاصها من هذه المواجهة التاريخية (كيف يمكن لجيش قليل العدد الانتصار على جيش كبير العدد، مراكز ثقل العدو، الهجوم على المؤخرة، وقطع خطوط الإمداد…)، وإنما يمكن اعتبارها منعطفًا حاسمًا في تاريخ المواجهات العربية الفارسية، حيث وَثَق العرب في قدرتهم على إخضاع العدو الفارسي، واقتنعوا بأن الحرب التي يضطر إليها أصحاب الحق تنتهي بفوزهم وهزيمة أهل الاستعلاء والباطل. ومنذ ذي قار لم تقم للفرس قائمة إلى أن أخضع عمر بن الخطاب إمبراطوريتهم بأكملها، ومن ثم إسقاط العرش الساساني.

  1. حسن الجاف، تاريخ إيران السياسي (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2008م).

 

  1. السيد عبد العزيز سالم، تاريخ العرب في عصر الجاهلية (بيروت: دار النهضة العربية للطباعة والنشر، د.ت).

 

  1. رئيف خوري، مع العرب في التاريخ والأسطورة (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2019).

 

  1. ليدل هارت، الاستراتيجية وتاريخها في العالم، ط4 (بيروت: دار الطليعة للطباعة، 2000).

 

  1. محمد الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (القاهرة: مطابع دار المعارف، 1968).

 

  1. نينا فكتور، العرب على حدود بيزنطة وإيران (موسكو: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب 1964).