موقعة ذي قار

اليوم المشهود

لا نبالغ إذا قلنا إن موقعة ذي قار من أهم أيام العرب وأحداثهم المجيدة قبل عصر الفتوحات العربية الإسلامية الكبرى. ويعترف المؤرخون الإيرانيون المحدثون بأهمية موقعة ذي قار، ليس فقط في التاريخ العربي، وإنما في تأثيرها في التاريخ الإيراني؛ إذ ينظرون إليها على أنها مقدمة تاريخية للموقعة التاريخية الشهيرة القادسية، والفتوحات العربية الكبرى التي أدت إلى سقوط الإمبراطورية الفارسية. فما قصة موقعة ذي قار؟

يرجع اسم ذي قار إلى مصدر مياه كان لقبيلة بكر بن وائل، إحدى أهم القبائل العربية. ويختلف المؤرخون حول تحديد تاريخ الواقعة ، ولكن هناك إجماع على أنه في بدايات القرن السابع الميلادي، بعد بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم. وتعود خلفيات الواقعة إلى حادثة غدر كسرى بالنعمان بن المنذر ملك الحيرة، أحد رموز العرب آنذاك. وتبع ذلك رفض بني شيبان- وهم من قبيلة بكر بن وائل- تسليم ممتلكات النعمان وأهله إلى كسرى؛ لأن المروءة العربية تأبى تسليم الوديعة لغير صاحبها فضلا عن تسليمها لعدوه.

وفي حقيقة الأمر كانت نية كسرى والفرس، كسر أنف العرب والتقليل من شأنهم وتأكيد سطوة الفرس عليهم. ويقال أيضًا إن كسرى قد خشيَ من كثرة الأسلحة التي أودعها النعمان لدى بني شيبان؛ لأنها في النهاية ستزيد من شوكة العرب، وتجعلهم يثورون على سطوة الفرس. من هنا لجأ كسرى إلى سياسة فرق تسد، وحاول تأليب العرب بعضهم على بعض، وبالفعل نجح في ضم بعضهم إلى صفه، لكن أغلبية العرب اتحدوا تحت زعامة قبيلة بكر بن وائل دفاعًا عن الكرامة العربية؛ إذ شعرت القبائل العربية أن هذه الموقعة ستحدد مصيرهم ومستقبل أولادهم، من هنا تجلت الشجاعة العربية في أبهى صورها.

وحدثت اتصالات بين القبائل العربية المتحدة ضد الفرس. وبالفعل تغلبت المروءة العربية؛ إذ نجحت قبيلة بكر بن وائل في استمالة قبيلة إياد، وقامت الأخيرة بالانسحاب أثناء المعركة من الجانب الفارسي والانضمام إلى الجانب العربي. وأدى ذلك إلى وقوع حالة من الاضطراب في الجيش الفارسي. وساهم ذلك -إلى جانب ما أبداه المحارب العربي- في هذه الموقعة من بسالة إلى انهيار الهجوم الفارسي وتحوله إلى الدفاع، ثم إلى الفرار.

ولما كان الشِعر ديوانَ العرب، خلد الشعر هذه الموقعة المهمة في التاريخ العربي؛ إذ أنشد الأعشى في الفخر بيوم ذي قار قائلاً:

لَوْ أنّ كُلّ مَعَدٍّ كانَ شارَكَنَا        في يومِ ذي قارَ ما أخطاهمُ الشّرفُ

وللعديل بن الفرخ العجلي شعر يفتخر فيه بيوم ذي قار:

ومـا يـعـدون مـن يـوم سـمـعـت به         للنـاس أفـضـل مـن يـوم بـذي قار 

وتشير معظم المصادر التاريخية إلى فداحة الهزيمة على الجانب الفارسي. حتى قيل: إن كسرى كان يقطع أيدي كل من ينقل إليه خبر هزيمة جيشه في ذي قار، وهو في حالة نفسية أقرب إلى رفض الحقيقة وعدم القدرة على تقبل الواقع. وفي محاولة منه لتأكيد الوجود الفارسي على العرب، ورفض الواقع، عزل كسرى إياس بن قبيصة عن حكم الحيرة، وفرض عليها الحكم الفارسي المباشر. وأدى ذلك إلى مزيد من تمرد القبائل العربية على الفرس؛ إذ تمردت قبائل بكر بن وائل واستقلت بالبحرين. ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ أعلنت العديد من القبائل في أواسط الجزيرة العربية رفضها لأي نفوذ فارسي. وإزاء تصاعد الأمور ضد النفوذ الفارسي اضطر كسرى إلى إعادة حكم الحيرة إلى أحد أبناء النعمان بن المنذر.

وفي حقيقة الأمر كانت موقعة ذي قار بداية النهاية للإمبراطورية الفارسية الساسانية على يد الأبطال العرب بعد الإسلام. وتعد معركة القادسية الحلقة الثانية بعد موقعة ذي قار؛ إذ أدت إلى سقوط الجناح الغربي للإمبراطورية الفارسية، ثم واصل الفاتحون العرب التقدم حتى سقطت الإمبراطورية الفارسية عن بكرة أبيها، التي طالما أرهبت العرب وغيرهم لعقودٍ طويلة في التاريخ.