البداية الأولى لتزييف التراث العربي

يوم سرق سليم الأول قلعة حلب

لا تجوز السرقة في الإسلام، لكنها تعد أمرًا مشروعًا في شريعة الدولة العثمانية، بدليل أن تلك العادات السيئة ورّثوها لرجال جيشهم ومسؤوليهم في كل مكان استعمروا أرضه وفكره وثقافته، فصفحات التاريخ مليئة بـصفعات مهينة بزعم إسطنبول أنها دولة إسلامية تحترم النزاهة والقيم الإنسانية.
ومن ذلك اعتياد القلم التركي على سرقة التراث العربي ومآثره المتفردة، وبالنسبة للعرب فإن ذلك يعود إلى سببين؛ أولهما: تحقيق رغبة العقل العثمانيين الباطن، أولئك الذين اعتادوا على سوء التعامل مع العرب، فضلا عن إذلالهم وإهانتهم وبخس حقوقهم الفكرية، والثاني: أن دولة الترك لا تتكئ على قاعدة صلبة من التاريخ والثقافة التي تؤهلها لإنتاج مخرجات خالدة ومتفردة خاصة بها تحقق غاية فخرها إن أرادت ذلك. إضافة إلى اتخاذ نظام “المماليك” مع رعايا الدول والمجتمعات التابعة لهم، فأهلها ومالها وثقافتها وأرضها وعرضها حلٌ لأهواء نظام إسطنبول وكأنها ملك لهم، ويظهر هذا الهوس التركي باستئثار كل ما هو عربي متفوق في المبنى والمعنى لتزييفه بإضافته إلى الثقافة التركية قسرًا، أو سلبه من موطنه الثقافي الأصلي وتجريد العرب منه.

سلبوا كل ما هو عربي وأضافوه إلى الثقافة التركية قسرا.

اعتاد العثمانيون سوء التعامل مع العرب وبخس حقوقهم.

ومن قصص التاريخ الشاهدة، قصة خيمة المولد المصرية التي أقيم فيها الاحتفال بالمولد النبوي واستهوت العثماني سليم الأول (1520م) باعتبار أن العثمانيين متصوفون بامتياز، تصوفا باطنيا بالتحديد ، لذلك فالمولد النبوي عادة صوفية متوافقة مع العثمانيين، وبما أن جميع المحتفلين منبهرون بالخيمة المصرية، برسمها البديع ونقوشها الجاذبة وألوانها الزاهية حتى وصفها ابن إياس في كتابه “بدائع الزهور” بأنها من جملة عجائب الدنيا إذ لم يُصنع مثلها قط، فقد بلغت تكلفتها 30 ألف دينار -وهو مبلغ خيالي آنذاك- فما كان من سليم الأول إلا أن حَطَّ من قدر الإبداع المصري العربي، بأن باع الخيمة للمغاربة بأربعمائة دينار فقط، وذلك بهدف تقليل قدرها التراثي والجمالي، فبادر المغاربة إلى تقطيعها قطعاً واشترى الناس تلك القطع، فاستخدموها ستائرا لبيوتهم وسُفَرًا لموائدهم. ولم يكن تصرف سليم الأول إلا حقدًا وتقليلاً من قدر الثقافة العربية الإسلامية، وشواهد التاريخ في محاولة العثمانيين حط وتقليل معطيات الثقافة العربية الإبداعية متعددة على غرار ما فعله إبراهيم باشا في مصر بأخذ أموال عظيمة، وتحف وقطع نادرة أهدى منها للسلطان مراد تختًا من الذهب مرصعاً بالجواهر العظيمة.
وقصص سرقة سليم الأول للتراث العربي بعد غزوه العرب يندى لها الجبين، خاصةً أنه يدرك أهمية الأموال العربية والتراث العربي، وأهميته في دعم العُقدة الأتراك الثقافية ، لا سيما أنهم لا يمتلكون هويةً راسخة. ومن ذلك حينما سقطت حلب الشهباء في يدِ سليم الأول واستولى على مقتنيات قلعتها الشهيرة؛ سعيًا منه لطمس هويتها الثقافية والحضارية، وإزالة عناصر تاريخها الذي يربطها بماضيها العربي والإسلامي العريق، حين أمر جنوده بفك رخام القاعة البيسرية والدهيشة، وقاعة البحرة، والقصر الكبير وغير ذلك من المواقع بالقلعة، كما أمر جنده بفك أعمدة الرخام السماقي التي كانت في الإيوان الكبير، لينشئ مدرسة باسمه في إسطنبول مثل مدرسة السلطان الغوري، وكان يمكنه أن ينشئ المدرسة بدون هدم وتخريب مدرسة الغوري والاعتداء على الحقوق الفكرية والقيم العمرانية لتلك المدرسة التاريخية التي خرَّجت أجيالاً غاية في التفوق والتميز العلمي.

خيمة المولد المصرية قيمتها 30 ألف دينار وبيعت بـ 400 دينار لصالح العثمانيين.

منظرُ العثمانيين الذين نفذوا هذا التدمير لمكونات المدرسة في حلب وهم يهجمون بهمجية على قاعات الدرس، ويأخذون ما فيها من الرخام السماقي والزرزوري والملون، حيث خرّبوا قاعات عدة من أوقاف المسلمين وبيوت الأمراء التابعة لتلك المدرسة، يذكرك ذلك المنظر بهجوم المغول على بغداد وما فيه من وقائع موجعة ضد التراث العلمي والفكري وجرائم ضد الفكر الإنساني، هكذا وصفتهم مصادر التاريخ؛ ربما لأن العثمانيين يشتركون مع المغول في جينات حاقدة، باعتبار أن بينهم علاقة عرقية أصيلة، وكما أحرق المغول مكتبات العاصمة العباسية وألقوا بكتبها في نهر دجلة والفرات حتى أصبح ماؤه أزرق، فإن العثمانيين لم يختلفوا عنهم حين سرقوا الكتب النفيسة ونوادر المخطوطات من المدرسة المحمودية والمدرسة المؤيدية، ومن كل المدارس في سوريا، خاصة في حلب التي أنتجت للتراث الإسلامي قبل ذلك التاريخ مئات الكتب الشرعية واللغوية؛ إذ كان يَؤُمُّها طلاب العلم ومريدوه من شتى بقاع العالم الإسلامي، ثم نقلوها إلى تركيا بعد أن وضعوا أيديهم عليها، وتلك محاولة فاشلة في نقل مراكز العلم وحاضناته إلى الوسط التركي لتعزيز المركزية السياسية العثمانية ذات المرجعية التاريخية الواهنة، وتفريغ العالم العربي من مكانته العلمية. 

لم تكن حادثة النهب تلك هي الأخيرة بل أعقبتها حوادث شتى وإن اختلفت في أماكنها وتواريخها، ولا أدَلُّ على ذلك من المتاحف التي أنشأتها تركيا بسرقات جنودها أثناء معارك استعمارها للدول المختلفة للتراث، وخاصة العربي منه الذي يمثل ميزة تنافسية تاريخية للعرب عن سواهم من الشعوب، ومنها الأتراك الذين جاؤوا من أواسط آسيا لا يحملون إلا فكرة الدم والموت بعد أن أتاح التاريخ لهم أن يُنشِئُوا دولة مترامية الأطراف ممزقة الأوصال، فوجدوا حقيقة أنفسهم بعد دخولهم هذه الدول بأن أغلب شعوب العالم تملك تراثاً وقيمةً وقِيَماً، وهم يملكون فقط ثقافة السلاح.

1. بولس مسعد، الدولة العثمانية في لبنان وسورية (بيروت: د.ن، 1916). 

2. عبدالمنعم الهاشمي، موسوعة تاريخ العرب في العصر الحديث (بيروت: دار ومكتبة الهلال، 2006).

3. محمد كرد علي، خطط الشام، ط3 (دمشق: مكتبة النوري، 1983).