البكتاشية والإنكشارية:

الباطنية الصوفية خدمت المشروع العسكري العثماني الشعوبي

تلتقي دراسات الحقبة العثمانية في كون فِرَق الإنكشارية كانت تشكِّل العمود الفقري للجيش العثماني، وبأنها كانت اليد التي ضرب بها العثمانيون خصومهم وأخضعوا بها الأراضي التي سقطت في قبضتهم، وإذا كانت الفيالق الإنكشارية قد أجرَمَت في حق سكان المناطق التي دخلوا إليها وعاثوا فيها فسادًا وقتلًا وإرهابًا، فإن تكوين الفِرَق الإنكشارية، في حد ذاته، يعتبر جريمة إنسانية.

في هذا الصدد لم يكن المسلم ليُصدِّق أن تعمل سلطة مسلمة على تجنيد عناصر (خارجية) في صفوف جيشها النظامي ينتمون إلى مناطق مختلفة، “فتأخذ الأبناء وتقطع تمامًا ونهائيًّا صلاتهم بذويهم، ثم تجبرهم على اعتناق دينها، وتُحوِّلهم إلى عبيد مسلَّحين للسلطان”.

وإذا كانت عناصر الإنكشارية قد تفنَّنَت في قتل وذبح سكان المناطق التي تم احتلالها من طرف العثمانيين، فإن الباحث مُطالب بفهم بِنيَتها السلوكية والمداخل التي ساهمت في تشكيل هاتِهِ الشخصية العنيفة، والتي لا تَمْتَح في ممارساتها لا من دين، ولا من أخلاق، ولا من قِيَم.

في هذا السياق تلتقي القرائن التاريخية على تأثير الطريقة البكتاشية الصوفية في توجيه السلوك الإنكشاري العسكري، وهو ما يدفعنا إلى البحث في التقاطعات الطرقية البكتاشية من جهة، والممارسة السلوكية الشاذة للإنكشارية من جهة أخرى، ولعل خطورة دراسة الطريقة البكتاشية وعلاقتها بالإنكشارية تكمن في تغلغل الاثني عشرية فيها من خلال الطرق الصوفية (الحليف الكلاسيكي للتمذهب الشيعي) وتحوُّله إلى مُوجِّه للعقيدة العسكرية للجيوش العثمانية.

نقطة الانطلاق إذًا هي الطريقة البكتاشية الصوفية التي انتشرت في الأناضول أولًا، ثم في أجزاء واسعة من البلقان، وتُنسَب إلى مؤسِّسها الحاج بكتاش ولي الدين، وقد تفرَّقَت الآراء حول الطريقة وأصولها ومبادئها، بل وفي تصنيفها، وإذا كان الغرب يصنِّفها في خانة الفِرَق المسلمة، فإن المسلمين أنفسهم يرون فيها تجسيدًا لفرقة متطرفة ومغالية، رغم ادِّعاء جمهور البكتاشية بأنهم “أقرب” إلى أهل السنة، فيما يرى البعض أنهم خليط بين هذا وذاك، مع إضافات أخرى من أديان وعقائد سابقة ولاحقة.

لقد دفعت ضرورات التوجيه والتأطير المجتمعي للمناطق التي أخضعها العثمانيون إلى الاستعانة بـ”علماء الدين والقضاة والمفتون ومشايخ الطرق الصوفية بغرض تهيئة الجو الإسلامي في الأقاليم التي لم يدخلها الإسلام… من هذا المنطلق دخلت الطريقة البكتاشية تحت حماية الدولة، وظلَّت تلك الطريقة على ولائها للسلطة المركزية العثمانية طيلة تاريخها”.

إن التأطير الديني يعتبر أداة فعالة في تكتيكات الضبط والربط العسكري، خاصة وأن عناصر الإنكشارية لم تكن منتوجًا تركيًّا خالصًا ولا متجانسًا، وبالتالي عمل سلاطين آل عثمان على إخضاعهم لمنظومة صوفية أساسها الطاعة العمياء والانقياد السلبي للسلاطين.

استعان العثمانيون بمشايخ البكتاشية في سياسة التأطير الأيديولوجي للشعوب المستعمرة.

وهناك رواية تاريخية جاء فيها أن السلطان العثماني أورخان حصل على الدعاء والمباركة من التكية البكتاشية عام (1363م)، وذلك عندما أراد ترتيب وتنظيم جنده من طائفة الإنكشارية… فأخذ مجموعة من أطفال “الديوشيرمة” أبناء النصارى وغيرهم إلى قبر الشيخ حاجي بكتاش ولي… ووقف أمام القبر وقال: “لقد أتيت اليوم يا شيخي لتُبارك لي هذه الفرقة الجديدة”.

والثابت أن استفادة العثمانيين من كتائب الإنكشارية قابَله استفادة هذه الفِرَق العسكرية من الطريقة البكتاشية التي ساهمت في انتشار قاعدتها، وبالتالي تماهَت مع “نعومة” تعاليمها البعيدة عن حقيقة الدين الإسلامي الحنيف، في مجال الانضباط العسكري والسلوكي، وهنا نسجِّل بأن الجيش الإنكشاري خصَّص “شيخًا لكل كتيبة يقيم فيها، يعلِّمهم آداب الطريقة وطقوسها، وفي كل أورطة يقيم وكيل للطريقة”.

إن مساهمة مؤسسة الإنكشارية في اتساع الدولة العثمانية، ونجاحها في المحافظة على تنظيماتها العمودية والأفقية زيادة عن خمسة قرون، تحوَّل إلى نقمة على سلاطين آل عثمان، حين “تحولت هذه المؤسسة من المحافظة على أمن واستقرار الدولة، إلى جهة تبُثُّ الرعب والفوضى بين الناس، حتى بات الإنكشاريون رمزًا للفساد والفوضى والانحلال”.

ولعل سلاطين آل عثمان قد اقتنَعوا بأن حل كتائب الإنكشارية والقضاء على شوكتهم لا يمكن أن يتم إلا من خلال تكتيكين أساسيَّين: الأول مرتبط بتصدير عناصرها إلى أطراف السلطة ليحكمها شرار الخلق، والثاني مرتبط بما قام به محمود الثاني عندما “حل الطريقة البكتاشية لارتباطها الوثيق بهم، وبالتالي مهَّدت له الطريق لإدخال الإصلاحات بالجيش وتطويره”.

والإنكشارية بعد أن تمدد العثمانيون في العالم العربي كان لهم تاريخٌ أسود في القتل والتعذيب والاستبداد، خاصةً وأن النفَس الشعوبي كان طاغيًا في تفاعلاتهم مع العرب، كما كان في سقوط مصر في أيديهم، كذلك من خلال حُكمهم الاستبدادي في الولايات العربية، وجاء أكثر وصف للشخصية الإنكشارية على لسان القنصل الأمريكي في الجزائر وليام شالر الذي قال عنهم:  “.. وبعد ذلك يصبح “إنكشاريًّا”، ذلك كل ألقابه ومؤهلاته، ولقد حدث كثيرًا أن ساعد الحظ أحطَّ الأشخاص وأسوأهم للخروج من حالة البؤس التي كانوا فيها مغمورين ليرتقوا عرش الجزائر”.

  1. محمد مروان، “الإنكشارية قوة الدولة العثمانية وضعفها”، المجلة العلمية لكلية التربية، جامعة مصراتة، ليبيا، المجلد الثاني العدد الثامن، يونيو (2017).

 

  1. مذكرات وليام شالر القنصل الأمريكي في الجزائر (1816-1824)، ترجمة: إسماعيل العربي (الجزائر: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1982).

 

  1. هدى درويش، “المنهج الصوفي للطريقة البكتاشية وتأثيره على السلطة الحاكمة في تركيا”، بحث مقدم إلى مجلة كلية الآداب، جامعة الزقازيق، نوفمبر (2001).

 

  1. وليد فكري “الإنكشارية.. جريمة العثمانيين التي انقلبت لعنة عليهم”، مقالة نشرت على موقع سكاي نيوز عربية بتاريخ 23 ديسمبر 2019 على الرابط: https://www.skynewsarabia.com/blog/1307422