الخلافة

الذريعة العثمانية لاحتلال العرب

بالرغم من أن السلطنة العثمانية روجت إلى أنها تحكم شعبين رئيسيين: الترك والعرب، وبالرغم من ادعاء الأتراك إقامة الحكم الرشيد عبر خلافة مزعومة؛ فإن الحقائق على الأرض تقول: إنهم روَّجوا لمثل هذه الادعاءات للتحكم في العرب وبلادهم، بحكمهم واستنزافهم بدل تنميتهم، وقمعهم بالسلطة الدينية بدلًا من إقامة العدل والشرع.

هكذا تم اختطاف مفهوم الخلافة الإسلامية، وتحويله من حكمٍ رشيد إلى احتلال عثماني مستبد، بواجهة رومانسية وسلطة دينية، وهكذا شوَّه العثمانيون فكرة الخلافة، وهي فكرة عربية استطاع العرب تطويرها كنظام حكم، من ضمن أنظمة أخرى اختاروها، ويشهد التاريخ كيف استغل السلاطين العثمانيون سلطة المنبر والإفتاء، فحكموا على كل من خالفهم بالكفر والخروج من الملة، وأقاموا الحروب وأرسلوا الجيوش وأثاروا الفتن، كما فعلوا مع الدولة السعودية الأولى، والتي لم تكن أساسًا تحت سلطتهم، ومع ذلك عندما أحسوا بأن السعوديين قدموا نموذجًا للحكم العربي الرشيد، حاولوا تشويههم وقاتلوهم.

“الخلافة” على الطريقة العثمانية

بقيت الخلافة الإسلامية مرجعية سياسية، لكنها لم تكن إلزامية أبدًا في التاريخ السياسي العربي منذ عهد الخلافة الأول، إذ بقي الشكل السياسي الإسلامي متنوعًا طوال تاريخه، فجاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه كخليفة للرسول الكريم في حكم المجتمع الإسلامي، وجاء عمر بن الخطاب كأمير للمؤمنين، ومن بعدهما جاء عثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب رضي الله عنهم جميعًا، ثم دولة أموية وعباسية تحت مسمى أمير المؤمنين ودولة الخلافة.

تنوعت طرق الحكم، وترك للمسلمين العرب ضمن إطار عام تحديد صفتها، وجاء شكلها السياسي المتنوع كنتيجة لظروف توسع الدولة الإسلامية، وضم أقاليم متعددة ذات لغات وعادات وتفاصيل مختلفة تحتها.

لا شك أن الخلافة بمفهومها الديني السياسي ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة ورمزيتهما الدينية لدى المسلمين، لذلك نازعت الدولة الأموية عبد الله بن الزبير في حكم المدينتين المقدستين حتى استردتهما؛ ليقينها أن حكمها لن يكتمل دونهما، ويؤكد ذلك أن الدولة الأموية في الأندلس التي عاصرت العباسيين، لم تنازعهم في أمر الخلافة، ولم تدّعِ الخلافة؛ لأنها لم تكن مشرفة على الحرمين الشريفين أبدًا.

أما لماذا رمزية الحرمين الشريفين؟ فلأنهما يقعان في قلب المشاعر الإسلامية، وهما يمثلان بحقٍّ المرجعية الكبرى التي تجتمع عليها الأمة، ولا يمكن أن تختلف عليها، وبالرغم من أن المماليك الذين سيطروا على الحرمين فترة طويلة، فإنهم لم يعتدوا على فكرة الخلافة، بل إنهم تركوا الخليفة العباسي يكمل مسيرة أجداده، وأخذوه إلى القاهرة وحموه بعد اجتياح المغول لمعقل الدولة العباسية في بغداد.

الادعاء العثماني المزيَّف

تعود فكرة الخلافة العثمانية المزعومة بعد احتلال سليم الأول لمصر، إذ لم يكن يخطر على بال العثمانيين أنهم سيتلقبون بلقب خلفاء في يوم من الأيام، فهم لم يعرفوها ولا يستحقونها ولا تنطبق عليهم شروطها الدينية التي أقرها الفقهاء، لكن سليم الأول فوجئ بعد احتلاله لمصر من المماليك بوجود خليفة عباسي في مصر تجتمع تحت رايته الأمة.

يقول محمد فريد بك: “ومما جعل لفتح وادي النيل أهمية تاريخية عظمى أن محمدًا المتوكل على الله -آخر ذرية الدولة العباسية الذي حضر أجداده لمصر بعد سقوط مدينة بغداد مقر خلافة بني العباس في قبضة هولاكو خان التتري سنة ٦٥٦ﻫ (الموافقة سنة ١٠٩١م) وكانت له الخلافة بمصر اسمًا- تنازل عن حقه في الخلافة الإسلامية إلى السلطان سليم العثماني، وسلمه الآثار النبوية الشريفة، وهي البيرق والسيف والبردة، وسلمه أيضًا مفاتيح الحرمين الشريفين، ومن ذلك التاريخ صار كل سلطان عثماني أميرًا للمؤمنين وخليفة لرسول رب العالمين، اسمًا وفعلًا”. وبطبيعة الحال فإن ما قاله محمد فريد مزيَّف وغير منطقي، فالحقيقة تتلخص في أن سليمًا الأول أخذ معه الخليفة العباسي إلى إسطنبول وأجبره على التنازل، ثم أعلنت وفاته بشكلٍ غامض، لتصبح الخلافة من بعدها مختطفة في عاصمة الأتراك دون وجه حق.

الطرح التاريخي لرواية التنازل المكذوبة ظهرت مضطربة لدى الفكر المتطرف.

وفي نقض للرواية التركية عن انتقال الخلافة إلى إسطنبول من أحد المروجين والمدافعين عن العثمانيين زورًا، يقول المتطرف علي الصلابي معترفًا: “إن مسألة انتقال الخلافة إلى آل عثمان ترتبط بالفتح العثماني لمصر، وقد قيل: إن آخر الخلفاء العباسيين في القاهرة قد تنازل لسليم عن الخلافة، فالمؤرخ ابن إياس المعاصر لضم العثمانيين لمصر لم يتطرق لها، كما أن الرسائل التي أرسلها السلطان سليم الأول إلى ابنه سليمان لم ترد فيها أية إشارة لتنازل الخليفة عن لقبه للسلطان، كما أن المصادر المعاصرة لا تشير إلى مسألة نقل الخلافة إلى آل عثمان الذين لا ينتسبون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. كما أن فتوح سليم الأول أكسبته قوة ونفوذًا معنويًّا وماديًّا، خصوصًا بعد دخول الحرمين الشريفين تحت سلطانه”.

  1. أبو الأعلى المودودي، الخلافة والملك، ترجمة: أحمد إدريس (الكويت: دار القلم، 1978).

 

  1. أحمد المقريزي، السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق: محمد عطا (بيروت: دار الكتب العلمية، 1997).

 

  1. محمد فريد، تاريخ الدولة العلية العثمانية، ط2 (القاهرة: مطبعة محمد أفندي مصطفى بحوش قدم بمصر المحمية، 1896).

 

  1. محمد الساعد، لا خلافة بلا حرمين، العربية نت على الرابط: https://2u.pw/kejnwFB.