"سقوط الدرعية وملاحم البطولة بقيادة الإمام عبد الله بن سعود"

سطّر لنا التاريخ الحديث كثيرًا من الصور والرموز والقيادات السعودية، التي لن ينساها أبناء هذا الوطن، إزاء ما قدموه من بطولات فذة في أشد الظروف التي مرت بها الدولة السعودية في طورها الأول وأحلكها، ألا وهي شخصية الأمير عبد الله بن سعود الابن البكر للإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد وولي عهده، الذي نشأ وتربّى في الدرعية عاصمة الدولة السعودية.

وتلقى تعليمه الأول من مدرسة أبيه الإمام سعود أبرز أئمة الدولة السعودية ونهل منه الكثير منها وشكّلت شخصيته وكيانه وتعامله وحنكته السياسية وتعاطيه مع الأحداث، ودرس على عدد من المشايخ والعلماء والمؤدبين، وتشرّب منذ صغره حب الفروسية وركوب الخيل وحمل السلاح وقيادة الجيوش والجموع والتعامل مع الأحداث وشن الغارات ومواجهة الأعداء والمتربصين بالدولة من الداخل والخارج.

وبرزت ملامح شخصية الأمير عبد الله بن سعود أكثر بعد توليه ولاية العهد، فظهرت عليه سمات القائد والإداري الناجح، والسياسي المحنك، والعسكري الواثق بالله وبنفسه، لقد كان بطلاً مغوارًا من أبطال الدولة السعودية، فمنذ أن أسند إليه والده الإمام سعود قيادة الجيش في مواجهة بعض القبائل المخالفة والقيام بردعها وإعادتها إلى جادة الصواب اكتملت لديه صفات القائد السياسي والعسكري والإداري الناجح وهي التي أهَّلته لتولي الإمامة فيما بعد والوقوف بشموخ وعزة أمام الحملات التركية البربرية الغازية.

وقد تجلّت فيها حنكته السياسية ودهاؤه العسكري في مواجهة الجيش التركي الغازي لأراضي الدولة السعودية في حملته الأولى، التي قادها أحمد طوسون بن محمد على باشا والي مصر العثمانية، بجيش كبير عرمرم فيه من جميع ولايات الدولة العثمانية، وسار بهم من جهة البر والبحر ليكون ميناء ينبع قاعدة انطلاقة ذلك الجيش الغازي لمحاربة الدولة السعودية.

وقد ذكر المؤرخ السعودي ابن بشر “وقدّر عدد ذلك الجيش بأنه قد بلغ حوالي أكثر من أربعة عشر ألف مقاتل معهم الخيول الكثيرة وهم شاكين السلاح ومزودين بالمدافع ومختلف الأسلحة القتالية، ولقد تصدّى الأمير عبد الله بن سعود بأمر من والده الإمام سعود لتلك الحملة التركية البربرية والهجمة الشرسة على الوطن واستطاع أن ينظم جيشه تنظيمًا عسكريًّا مناسبًا، أربك فيه العدو واستأصل شأفته.

فبعد وصول الحملة التركية إلى وادي الصفراء، كمنت لها القوات السعودية التي يتراوح عددها كما يشير ابن بشر أنها كانت حوالي ثمانية عشر ألف مقاتل، فقسّم الأمير عبد الله جيشه إلى فرقتين فرقة يقودها تقف في مواجهة الحملة الغازية، وفرقة أخرى تختفي خلف الوادي تستدعى حين اختلال صفوف الجيش السعودي، فبعد ثلاثة أيام من الحرب وهي سجال بين الطرفين استدعى الأمير عبد الله الفرقة الثانية لتحاصر الجيش الغازي وتفتك فيه من الجهتين، فانتهت المعركة بهزيمة أحمد طوسون هزيمة نكراء حيث قتل من جيشه قرابة خمسة آلاف رجل، وغنم السعوديون مكاسب عظيمة، سبعة مدافع وكثير من السلاح والذخائر والعتاد والأموال، وهو ما أكده ابن بشر بقوله :” ولا نجا منهم إلا أهل الخيل الذين أدبروا مع باشتهم“، ليعود طوسون مهزوما لا يلوي على شيء إلى ينبع.

ومن هناك طلب من والده محمد على باشا إمداده بالمدد العسكري، ووصلت إمدادات مصر من محمد علي المتأثر بالهزيمة الكبيرة على يد الأمير السعودي عبد الله بن سعود الذي أثبت قدرته العسكرية في المواجهة مع العدو الغاشم، وبويع الأمير عبد الله بن سعود بالإمامة بعد وفاة والده الإمام سعود سنة 1227هـ/ 1812م، لتبدأ مرحلة جديدة عاشها الإمام عبد الله بن سعود خلال حكمه الذي دام أربعة سنوات ونصف، قضاها في سلسلة من المعارك والملاحم البطولية ضد الحملات التركية الغاشمة قائدًا حازمًا مجاهدًا في سبيل الله من أجل المحافظة على وحدة الدولة وتماسكها، والحفاظ عليها بكل جَلَد وصبر واقتدار.

ففي سنة 1230هـ/ 1815م، استطاعت القوات السعودية إيقاف تقدم حملة طوسون داخل أراضي الدولة السعودية، بعد زحفها نحو الرس، وقد أدرك القائد التركي خطأه في التوغل وسط الجزيرة ومنطقة نجد منها وذلك لجهله وقادته حروب الصحراء التي يعرفها أهل المنطقة جيدًا، لذا طلب طوسون أن يعقد الصلح مع الإمام عبد الله بن سعود عندها أرسل الإمام من طرفه وفدًا للتفاوض مع محمد على باشا ووصل الوفد إلى القاهرة في عام 1231هـ/ 1851م، وخلال تلك المدة انسحبت القوات الغازية من القصيم إلى المدينة المنورة، إلا أن الوفد السعودي لم يوفق في إتمام عملية الصلح النهائي بين الطرفين.

ولم تطل الهدنة كثيرًا بين الدولة السعودية والأتراك، فقد سيّر محمد علي باشا حملته الثانية الكبرى هذه المرة بقيادة ابنه السفاح إبراهيم باشا، سنة 1231هـ/ 1816م، مزودة بالعتاد العسكري الجديد الكبير، وبالخبراء العسكريين الأجانب وعلى رأسهم الضابط الفرنسي فيسير، الذي كان بمثابة أركان حرب لجيش إبراهيم المجرم، إضافة إلى مجموعة من الأطباء الإيطاليين، بهدف تلافي الأخطاء السابقة.

وظهر الموقف البطولي الجريء للإمام عبد الله بن سعود عندما تصدى لحملة السفاح إبراهيم باشا منذ وصولها إلى الحناكية في جمادي الآخرة من سنة 1232ه/ 1817م، مع اختلاف ميزان القوى بين الطرفين لصالح الغزاة، إلا أنه بذل جهده في سبيل الحد من تقدمها فالمواجهة بينهما كانت عنيفة جدًّا، فآثر تحكيم العقل والمحافظة على جيشه، لذا اتجه إلى العمل باستراتيجية عسكرية جديدة مختلفة تعتمد على سحب القوات الغازية إلى عمق الجزيرة العربية في محاولة توريطها والقضاء عليها.

وبعد وصول الحملة إلى الرس وحصارها لها أرسل الإمام عبد الله بن سعود نجدات عسكرية لمواجهة تلك الحملة وفك الحصار عنها ومناصرة أهلها ودعمهم، وعن ذلك يقول ابن بشر: “فأقبل عساكر الترك مع باشتها إبراهيم ونزلوا الرس لخمس بقين من شهر شعبان من سنة ( 1232هـ/ 1817م) فثبتوا له وحاربوه” وطال الحصار على الرس قرابة خمسة أشهر، مما اضطر أهل الرس والقوات السعودية لطلب الصلح، و بعد سقوط الرس  صلحا أمام القوات الغازية سقطت بلدان القصيم والوشم تباعا، مما حدا بالإمام عبد الله بن سعود أن يقرر الدفاع عن عاصمة ملكه ورمزها وكيانها السياسي “الدرعية”.

ملاحم البطولة في الدرعية:

الدرعية عاصمة الدولة السعودية، المدينة المحصنة ذات القلاع القوية، ومحيطها حوالي اثني عشر كيلو مترًا وبسور محصّن بالأبراج، فقد شهدت الدرعية بقيادة الإمام عبد الله بن سعود فصلاً من فصول البطولة والملحمة الخالدة في الدفاع عنها بكل قدراته العسكرية والبشرية، لذا صمدت الدرعية بقيادتها السعودية القوية، فقد وصلها السفاح إبراهيم باشا في شهر جمادى الأولى من سنة 1233هـ/ 1818م، ليفرض عليها حصارًا أتبعه بدكّها بالمدافع بلا رحمة لمدة شهرين كاملين دون أن يحقق تقدمًا ملموسًا.

كان صمود الإمام عبد الله بن سعود وأهالي الدرعية، صمودًا سطّره لهم التاريخ وأظهر الملامح البطولية في المقاومة والمجالدة للغزاة، فيشهد لهم بذلك باب سمحان، وحي الطريف، والبجيري وغيرها، فسطّرت الدرعية بقيادتها دروسًا في قوة التحمل والصبر في مواجهة القوات التركية الهمجية التي لا تراعي النفس والبشر، ويأتيها المدد من الداخل والخارج بينما تعاني الدرعية من الحصار الجائر.

ولا شك أن هذه الحالة هي صورة من صور الأزمة الأخلاقية التي عاشها الجيش التركي الهمجي في حربه ضد السعوديين، وإن ادعى صحة قضيته وظهوره بمظهر المنتصر، وقال ابن بشر عن تلك الحرب وهمجية الغازي: “وفرَّق عساكره تجاه جموع أهل الدرعية.. وقعت الحرب بينهم، واضطرمت نارها، وطار في السماء شرها وشرارها، فتخالفت القنابر، والقبوس، والمدافع، وصار مطرها فوق تلك الجموع متتابعا، فاشتد بينهم القتال، وتصادم الأبطال، والحرب بين الترك وأهل الدرعية سجال..”.

وهذا جزء يسير من شراسة تلك المعارك وقوتها التي واجهتها الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى، ووقف أمامها الأبطال من أسرة آل سعود وبقية سكان الدرعية وأعيانها والرجال البواسل من البلدان النجدية، ويشهد مسجد الطريف ببطولة الإمام عبد الله بن سعود في مواجهة المعتدين ومحاربة الغزاة الظالمين، الذي سلط عليهم المدافع وما توفر لديه من عتاد وذخيرة رغم قلتها، ولكن كما يقول ابن بشر:” ثم تفرق عن عبد الله أكثر من كان عنده، وبذل لهم الدراهم فأخذوها وهربوا، فلما رأى ذلك بذل نفسه للترك، وفدى بها عن النساء والولدان والأموال، فأرسل إلى الباشا وطلب المصالحة“.

لقد كان استسلام الإمام عبد الله بن سعود بطولي بكل المقاييس رحمة بالناس والأهالي والمكان من عدو افتقد معاني الإنسانية والرجولة، فكان ما قدّر الله له وليذهب الإمام مع بعض العلماء وقادة الدولة السعودية إلى إستانبول ليقضوا هناك شهداء في سبيل قضية التوحيد والإيمان الصادق بدعوى التمسك بالمنهج  الصحيح الذي كان عليه سلف الأمة، استشهد الإمام عبد الله بن سعود صابرًا محتسبا جلدًا لم تطرف له عين وجل أو خوف، فهو لم يكن يخشى الموت لأنه يعلم أن الآجال بيد الله وأن الشهيد أجره عند الله عظيم،  وقد يتصور البعض أن هذه نهاية الدولة السعودية الأولى بسقوطها بل في الحقيقة سقوط الغازي وهزيمة أخلاقياته، وشموخ للوطن الذي ما لبث أن بدأ للانطلاق من جديد والثبات على المبادئ والدفاع  عنها، ونتج عن ذلك قيام الدولة السعودية في طورها الثاني المعاصر.