سقوط غرناطة بداية حج اليهود نحو "بلاد العثمانيين"
إن البعض يربط العلاقات التركية الإسرائيلية، بالمعُطى البراغماتي وبالبعد الواقعي في العلاقات الدولية، وهو ما يمثل جزءًا من الحقيقة، وجانبًا مما ترصده الحقائق، إلا أن العلاقات التركية الإسرائيلية أعمق وأعقد من أن تُحْصَر في تراكمات القرن العشرين وتوافقات القادة السياسيين.
في هذا السياق، ترسّخت لدى اليهود -على مدى قرون- مشاعر الود والاعتراف تجاه الأتراك الذين كان لأجدادهم العثمانيين الفضل في الحفاظ على العِرق اليهودي من الانقراض، بعدما أنقذوهم من “أفران الموت” التي نُصبت لهم في القرون الوسطى، وخاصة عندما تمكّن اليمين المسيحي المتطرف من بسط سيادته على أوروبا.
هذا التطرف المسيحي، كان يرى في اليهود تهديدًا جديًا للسلطة الدينية للكنيسة، بالنظر إلى تعاطي اليهود مع العلوم والفلسفة وهو ما اُعتبر -آنذاك- تهديدا للهوية الدينية لأوروبا، هذا الإكراه السياسي والعقدي سُيضاف إليه التراكمات التاريخية والدينية، التي حمّلت اليهود مسؤولية قتل المسيح -عليه السلام- وصلبه في طقوس كهنوتية ساهمت في توقف دعوة نبي الله عيسى، الذي يضعه المسيحيون في مرتبة تتجاوز أيّ ملك مختار أو نبي مرسل ليكون الإله والرب والأب والابن.
أمام هذا الاضطهاد الديني، وعدم القدرة على الاندماج المجتمعي، سيضطر اليهود إلى البحث عن أرض جديدة ونظام آمن يحميهم من بطش المجتمع المسيحي، الذي زاد من حدة تنكيله باليهود خاصة بعد سقوط غرناطة سنة 1492م، حين أعلن الملك فرناند عن طرد 300 ألف يهودي من إسبانيا والبرتغال ليعيش بعدها القوم واقع الشتات الذي يُعَدُّ “لعنة” تاريخية ارتبطت باليهود.
إن تقاعس الأتراك عن إنقاذ مسلمي الأندلس، وتركهم يواجهون مصيرهم لوحدهم، واكبه تحمس العثمانيين للترحيب باليهود لمعرفتهم العميقة بِعلو كعبهم في مجالات المال والتجارة والأعمال، وهي الأنشطة التي كان آل عثمان في أمسِّ الحاجة إليها بالنظر إلى أنهم كانوا في بداية عهد التوسع والانتشار، وهو ما كان يفرض الحصول على صناديق مالية قادرة على تمويل الحملات العثمانية غربًا وجنوبًا.
لقد أدرك السلطان العثماني بايزيد الثاني، القيمة المضافة التي يمكن أن يقدمها اليهود للسلطنة؛ ولذلك سارع إلى إرسال من يدعوهم إلى شبه جزيرة الأناضول، وإلا فكيف لليهود أن يجرؤوا على “الهجرة” إلى بلد مسلم لولا الضمانات القوية التي قدمها لهم الباب العالي لحمايتهم وحماية حريتهم في العيش، والانتشار وممارسة شعائرهم الدينية بكل حرية.
عمل بايزيد الثاني على طمأنة اليهود، من خلال إصدار فرمان سلطاني يفرض على الموظفين العثمانيين الرسميين بذل كل ما في وسعهم وجهدهم لضمان دخول سلس لليهود والعيش بحرية وكرامة داخل حدود الدولة العثمانية وهدّد بإنزال أقصى العقوبات ضد كل من أضر بمصالحهم أو عامَلَهُم معاملة سيئة.
لم يكن اليهود ليجدوا أفضل من الدولة العثمانية مقامًا ومن سلاطينها إكرامًا، ليجدُّوا ويجتهدوا في رد الجميل وآداء المعروف لأهله، فلم يكن منهم إلا أن ساهموا في دعم الدولة العثمانية بالأموال التي تحتاجها في تشييد السفن وتمويل الحملات الحربية، واجتهد البعض في إعطائها قروضًا من دون فوائد، ووصل الأمر بالبعض إلى تسهيل دخول القوات العثمانية إلى المناطق التي يعيشون فيها كما حدث مع المجر حيث سلموا مفاتيح المدينة للغزاة الجدد، شكلاً من أشكال الاعتراف بفضل الأتراك عليهم.
وإذا كان عهد بايزيد الثاني هو “عهد الإنقاذ” بالنسبة لليهود، فإن عهد سليمان القانوني كان بمنزلة “العصر الذهبي” للوجود اليهودي داخل حدود الدولة العثمانية. وقد حافظ سليمان على نهج بايزيد الثاني في تعامله مع اليهود، وأضاف إلى ذلك أنه ساعدهم في الحصول على مناصب قيادية في أعلى هرم السلطة وهو ما جعلهم يؤثرون في صناعة القرار السياسي، خاصة أنهم أظهروا ولاءًا مطلقا للسلطان ولم تكن لهم أية طموحات انفصالية أو انقلابية على خلاف بعض المجموعات العرقية، التي كانت تشكّل مصدر قلق وتهديد لوحدة السلطنة.
ولعله من غير الدقيق، اعتبار معاملة السلطان العثماني لليهود داخلة تحت باب احترام حرية المعتقد والدفاع عن حقوق الأقليات، بل إن دفاعه عنهم كان لاعتبارات براغماتية صِرفَةٍ؛ نظرًا لدورهم في تدوير العجلة الاقتصادية داخل السلطنة، والدليل على هذا الدفع ما قام به السلطان سليمان القانوني عندما حرق البابا “باول الرابع” -بعد سنوات قليلة من إخضاع بوليا للحكم البابوي- امرأة يهودية وأربعة وعشرين رجلاً يهوديًّا أحياء في شهر فبراير سنة 1542م، وذلك على خلفية تهم الكفر والردة. فما كان من السلطان سليمان القانوني إلا أن أرسل إلى البابا خطابا شديدة اللهجة يفضح خلفية الدفاع عن اليهود والقناع المادِّي لسلاطين آل عثمان.
وجاء في خطاب السلطان العثماني ما نصه:”لقد حزن الرعايا اليهود، وتكبدت الخزينة خسائر تقدر ب 4000 دوقة وانخفض الدخل بسبب أفعال الباباوية تجاه اليهود الأتراك، يجب إطلاق سراح المارونيين بمنطقة أنكونا الذين يُعَدُّون رعايا أتراك في الحال“.
بعد هذه الحادثة عمل اليهود على استثمار جميع أموالهم داخل السلطنة، ونقلوا باقي مشاريعهم إليها وهو ما ساهم في انتعاش الاقتصاد العثماني، وتمويل الحملات العسكرية التي كانت تهدف إلى الاستيلاء على العالم العربي والإسلامي والقارة الأوروبية وجزء من آسيا.
إن دراسة التاريخ يبقى الهدف منها، إجراء ذلك الإسقاط المنهجي على البيئة الاستراتيجية الحالية، مع مراعاة بعض التمايزات التي لا تؤثر على تلك الصيرورة التاريخية في العلاقات الدولية، ولعل المتابع للعلاقات التركية الإسرائيلية تتولد عنده القناعة بأن هناك تناغمًا وتوافقًا على متانة العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، وهي العلاقات التي حافظت على قوتها رغم التقية السياسية التي حاول أن يُعبر عنها تيار الإسلام السياسي في تركيا، والتي كان الهدف منها كسب عواطف الأتراك مقدمةً لكسب أصواتهم.