دستور الحرملك:

قوانين الضبط والربط داخل "دار السعادة"

رغم البنية السياسية الصلبة التي كانت تُميِّز السلطنة العثمانية، في وقت من الأوقات، إلا أن هناك إجماعًا بين المؤرخين (على قلتهم) بأن “الحرملك” كان مؤسسة موازية قائمة الذات ومركز القرار والتوجيه في العديد من القرارات الكبرى التي تُطْبَخ قبل المصادقة عليها من طرف الباب العالي. ووصل تأثير الحرملك في توجيه دفة القرار السياسي العثماني إلى أن أُطلق عليه لقب “سلطنة الحريم” أو “سلطنة النساء” (بالتركية: قادينلَر سَلطَناتي) على اعتبار أنه كان -حقًّا- دولة داخل الدولة وهو ما جعله مادة دسمة للعديد من الأعمال التلفزيونية الدرامية التي تناولت ظاهرة “حريم السلطان” بشكل مستفيض ولو بقليل من الموضوعية والضبط التاريخيين بالنظر إلى ندرة المراجع التي عجزت عن استكشاف مناطق الظل داخل هذا الفضاء الغريب السري. 

وقد شكل الحريم بالإضافة إلى الأغوات، خلال القرنين السادس والسابع عشر أو ما عرف بعهد سلاطين الفترة الثانية، سلطة سياسية لا تقهر، جعل البعض يطلق على هذه المرحلة التاريخية التي عاشتها الدولة العثمانية لقب “حكومة السيدات (الحريم) والخصيان” وهو ما يمكن أن يصور جانبًا كبيرًا من الحقيقة حسب بعض القرائن التي جُمعت من طرف المختصين في تاريخ السلطنة.

ومن خلال ما تيسر من المراجع، يمكن بسط نظام التراتبية والمهام الوظيفية الموكولة إلى الحريم اللاتي يتولين مسؤولية تسيير الحرملك على النحو التالي:

“السلطانة الأم” أو “السلطانة الوالدة”
بالتركية “والدة سلطان Valide sultan” وهي أهم شخصية داخل الحرملك على الإطلاق وأكثرهن نفوذا داخل السراي العثماني وتتميز، دون غيرها، بقدرتها على الاتصال بالعالم الخارجي باعتبارها والدة السلطان الحاكم. وتكتسب السلطانة الأم هذه المكانة بمجرد تعيين ابنها على عرش السلطنة العثمانية حيث تُنْقَل من السراي القديم إلى الباب العالي في موكب مهيب يطلق عليه “موكب السلطانة الوالدة” لتبدأ في ممارسة نفوذها كأعلى مسؤولة نسائية داخل الحرملك.

ولتلك المكانة الاعتبارية المتميزة، تمارس السلطانة الأم أدوارا جد مهمة مرتبطة بتدبير الحرملك وتقديم الاستشارات الضرورية للسلطان؛ بحكم معرفتها الدقيقة بما يدور داخل “دار السعادة”، بالإضافة إلى تدبير بعض الأوقاف سواء داخل الأناضول أم في مناطق أخرى من السلطنة، مثل بلاد الحرمين، وهو ما أكسبها قوة مالية بالإضافة إلى مركزها السياسي والبروتوكولي داخل الحرملك؛ مما جعل البعض يصفها بأنها الحاكمة الفعلية للدولة العثمانية في العديد من المراحل التاريخية للسلطنة.

القادن أفندي
هن طبقة من الحسناوات اللاتي أنجبن ولداً للسلطان الحاكم، ويتميَّزن بوضع خاص داخل القصر السلطاني، ويعمل على خدمتهن مجموعة من الجواري والخصيان في جو تنافسي رهيب، يغلب عليه الحسد والمكر والخديعة للفوز بولاية العهد لأحد أبنائهن، ويطلق على الحسناء التي أنجبت الابن البكر للسلطان ب “الباشقادن” وتعد بذلك السلطانة الوالدة المقبلة داخل الحرملك العثماني.

بالإضافة إلى هذه المراتب الرئيسة داخل الحرملك، هناك بعض الوظائف المهمة التي يقوم بها الجواري حسب المراتب الهرمية التي حددها “دستور الحرملك” ومنها “الكلفة” وتُعَدُّ من الجواري اللاتي لهن مقام أعلى من باقي الخدم ولها دور مركزي في تسيير وحسن إدارة الحرملك. كما نجد من يطلق عليهن ب “الجوزدة” وهي أعلى مرتبة من الكلفة ويقصد بها الجارية التي استحوذت على اهتمام المسؤولين داخل القصر وليس بالضرورة السلطان نفسه وهو ما يسمح لها بالترقي داخل دار السعادة. أما من استحوذت على اهتمام السلطان، ولو مؤقتًا، فيطلق عليها لقب “إقبال” ولها وضع خاص داخل الحرملك. وبالإضافة إلى هذه المناصب “البروتوكولية” أو “الروتينية” هناك مناصب يمكن اعتبارها “تقنية” وتعتمد على كفاءة بعض الحريم وأمانتهن، والحديث هنا عن أمينة الخزينة وأمينة المجوهرات.

بعد هذا البسط الوظيفي، يتعين علينا المرور، بقليل من التفصيل، على أدوات الضبط والربط التي يفرضها الدستور العرفي للحرملك بالنظر إلى حساسية هذه المؤسسة وخطورتها، إذ تزايدت أهميتها بفعل رغبة سلاطين آل عثمان في إنجاب أكبر عدد من الأبناء لتقوية النسل العثماني، مع التنبيه إلى أن أغلب هؤلاء السلاطين كانوا يفضلون أن يكون لهم أبناء من الجواري عوض الزوجات الشرعيات على اعتبار أن معظمهن كن ينتسبن إلى عائلات كبيرة وكان ولاؤهن للعصبية العائلية يغلب على الولاء للسلطان، ومن ثم كان التخوف من انتقال السلطة إلى هذه العائلات إذا ما آلت ولاية العهد إلى أحد أبناء زوجات السلاطين الشرعيات.

ويمكن الجزم بأن “الحرملك” ظل لسنوات طويلة فضاء مكانيًّا جَدُّ منضبط وبعيد عما يمكن أن يوحي به مصطلح “دار السعادة” حيث كان بمنزلة مدرسة نظامية (مثل الأندرون) تخضع لمجموعة من الضوابط الصارمة، ومن يخرج عن تلك الضوابط يتعرض لعقوبات قاسية تصل في العديد من الأحيان إلى الإعدام.

في هذا السياق، كان الحرملك يحوي مجموعة من الأجنحة المخصصة للسلطانة الوالدة وزوجاته وأبنائه الصغار وبعض الجواري الحسناوات بالإضافة إلى الغرفة السلطانية التي كان لها موقع مميز يسمح للسلطان بالتجوال داخل الحرملك بمساعدة “الكايا” وهي من أكبر موظفي الحرملك، التي كان موكولا إليها تنظيم زيارات السلطان لحرمه.

ومن الطقوس السلطانية التي كان تميز مراسيم دخول السلطان إلى الحرملك هو لباسه حذاءً فضيًّا يصدر أصواتا مرتفعة لإثارة الضجة ولفت انتباه الجواري ودفعهم إلى تبني وضع استثنائي وسلوك خاص من خلال الانحناء وعدم رفع رؤوسهن لرؤية وجه الخليفة.

من الناحية الأمنية، فإن الضوابط الصارمة التي كانت تحكم التحركات داخل الحرملك كانت تفرضها مجموعة من الإكراهات المرتبطة بانتماء الجواري إلى مجموعات من الدول التي كانت تدخل في خانة “الدول أو الإمبراطوريات العدوة”، ومن ثم فإن العديد من الجواري يشكلن طابورًا خامسًا لهذه الدول داخل القصور السلطانية، وهو ما جعل حكام آل عثمان يضعون دستورًا صارمًا ينظم التعاملات داخل الحرملك مع منع أي اتصال للجواري والخصيان بالعالم الخارجي باستثناء السلطانة الوالدة.

في هذا الصدد كانت الجواري فور دخولهن القصر، يخضعن لتكوين تربوي جدُّ دقيق يبدأ باعتناقهن الإسلام ثم بترتيبهن حسب المراتب الوظيفية التي ذكرناها، مع تلقينهن واجباتهن و”حقوقهن” وتدريبهن على الانضباط لها مع إخضاعهن لمراقبة صارمة من طرف من يعلوهن درجة من الجواري أو الخصيان والأغوات. وفي حالة عدم الانضباط للدستور الداخلي للحرملك فإن الجاريات يتعرضن إلى أشكال من العقاب تختلف حدتها حسب نوع المخالفة التي ارتُكبت، فتبدأ من الزجر ثم الحبس والجلد على يد المخصيين السود، وقد تصل العقوبة إلى الإعدام بطريقة بشعة، إذ يُحْمَلْنَ في كيس مملوء بالحجارة ويُلقَى بِهِنَّ في مياه مضيق البوسفور، حيث يقع سراي الحرملك في قصر توبكاي العثماني. هذه العقوبات القاسية تدفع الحريم إلى السعي إلى إتقان عملهن في جو من الإخلاص الممزوج بالرعب وهو ما كان يضمن الانضباط والسير العادي لأمور الحرملك.

ولأن دستور الحرملك لم يكن عبارة عن وثيقة مكتوبة فإن طابعه العرفي جعل من الصعب توثيق وتدوين ما كان يجري داخل “دار السعادة”، بل هناك النزر اليسير من المؤرخين الذين تطرقوا إلى هذه المؤسسة السرية بشكل دقيق.

وإجمالا يمكن القول بأن الحياة اليومية داخل الحرملك أو “دار السعادة” كانت شبيهة بنشاط ثكنة عسكرية في انضباط تام لنظام بروتوكولي صارم وهو ما يجد مبرراته في كون الحرملك كان، خلال فترة من الفترات، يشكل دولة داخل الدولة وكانت معظم القرارات الكبرى تُطْبَخ داخل دواليب هذه المؤسسة، فكانت مفرخة أنجبت كبار رجال الدولة وعلى رأسهم السلطان العثماني نفسه.