"أزمة منع تجارة الرقيق في الحجاز 1271ه/ 1855م"

تذكر المؤرخة “Kate Fleet  كيت فليت” في كتابها “التجارة بين أوروبا والبلدان الإسلامية في ظل الدولة العثمانية” قولها:” كانت تجارة الرقيق ذات أهمية بالغة في الدولة العثمانية خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين، وقد نشطت هذه التجارة بصورة خاصة في مدن الأناضول الساحلية.. والحق أن تجارة الرقيق لم تكن منحصرة في الأناضول، وإنما تجاوزتها إلى مناطق أخرى في حوض المتوسط، ومن جملتها مصر ..”.

واستمرت تلك التجارة ردحًا من الزمن حتى القرن الثامن عشر الميلادي وما بعده، فتجارة الرقيق كانت تشكِّل أحد الروافد المهمة في الاقتصاد العثماني، والرقيق يُعَدُّ داعمًا قويًّا للأعمال التجارية والصناعات والخدمة في المنازل والمزارع، ناهيك عن دورهم في القطاعات العسكرية بتصنيفاتها العديدة في الحكومة العثمانية، والذي كان معمولًا به في معظم ولايات الدولة العثمانية المختلفة، بما في ذلك ولاية الحجاز.

في عام 1854م وقَّعت الحكومة العثمانية اتفاق أول قرض أجنبي لها مع أحد البيوت اللندنية الشهيرة، وذلك بعد وقت قصير من اندلاع حرب القرم، التي كانت ترى في التهديد الروسي خطرًا كبيرًا عليها، إضافة إلى ارتفاع تكلفة الحملة العسكرية ضد الروس، كان ذلك القرض مهدِّئًا لمخاوف السلطان عبد المجيد نسبيًّا مع ما كان يشعر به من خطر التورط المالي مع أوروبا، وبعد ذلك بعام، أي 1855م تم توقيع اتفاق جديد لقرض آخر هذه المرة مع آل روتشيلد (Rothschild) الأسرة اليهودية المالية المعروفة. 

وفي أواخر شهر تشرين من ذات العام أصدر السلطان عبد المجيد فرمانًا سلطانيًّا يقضي بمنع التجارة بالرقيق علنًا في الأسواق العثمانية، وفي جميع الأراضي الخاضعة لسيادته، تنفيذًا لمعاهدة خاصة بينه وبعض الدول الأوروبية، فالعثمانيون للتَّوِّ قد خرجوا من حرب القرم مع روسيا، وكان يقف إلى جانبهم حلفاؤهم الجُدد البريطانيون والفرنسيون، الذين بدورهم استخدموا نفوذهم للضغط على الحكومة العثمانية لإلغاء ومنع تجارة الرقيق على أراضيها، ولاتخاذ بعض الإصلاحات فيما يخص حقوق الأقليات وطلبهم بالمساواة مع المسلمين.

وقد أيَّدت الطبقة النخبوية العثمانية مثل ذلك الإصلاح، وبتلك التوجُّهات الدولية، فصاغت أفكارها عبر إعداد مثل تلك الفرامانات الهمايونية الإصلاحية، فكان منع ممارسة تجارة الرقيق أحدَها، الذي كان له أثره الكبير على الأوضاع الأمنية في الحجاز.

حيث وصف المؤرخ أحمد زيني دحلان المعاصر لتلك الأحداث في كتابه “أمراء البلد الحرام” بقوله: “واتفق في تلك الأيام التي قدِم راشد باشا أنه ورد التنبيه من كامل باشا القائم مقامه بمكة أن يجمع دلَّالي الرقيق، ويمنعهم من بيع الرقيق بمقتضى أمر جاء لكامل باشا من الدولة، ففعل قائم مقام باشا ما أُمر به، فصار للناس من ذلك انزعاج واضطراب، وصاروا يقولون: كيف يمنع بيع الرقيق الذي أجازه الشارع؟ وهاج الناس هياجًا شديدًا، فاجتمع جماعة من طلبة العلم عند الشيخ جمال شيخ عمر، وكان رئيس العلماء، وقالوا: نذهب إلى القاضي، ونذكِّره في ذلك ليراجع كاملًا باشا، وهو يراجع الدولة في ذلك.. فاجتمع معهم خلق كثير.. فلما دخلوا على القاضي فزع منهم وهرب.. فزاد هياج الناس واضطرابهم، وهاج بسبب ذلك بعض العساكر الضبطية الذين كانوا في دار الحكومة، ورأوا بعض الناس حاملين السلاح يقولون: الجهاد، فثار من ذلك فتنة عظيمة، وصار الرمي بالبندق بين الفريقين، وانتشرت الفتنة، ورُمي البندق في الأسواق والطرقات، وصار القتل لكثير من العسكر وغيرهم، وتوقف بعض العسكر مع بعض أهل البلد في المسد الحرام، وصاروا يترامون بالبندق في المسجد، وقُتل في المسجد أناس من ذلك الرمي”.

فلما أوصلت تلك الأخبار إلى الشريف عبد المطلب بن غالب وهو بالطائف غضب لذلك الأمر، وجمع جموعه من القبائل لإعانة الناس في مكة ضد الأتراك، الذين لم يراعوا حرمة الناس والمكان، فخَفَّ الأتراك إلى جدة وتحصَّنوا بها، وأعلن كامل باشا أن الفرمان السلطاني قد وصل إليه بعزل عبد المطلب وتولية الشريف محمد بن عبد المعين بن عون.

ومن ذلك الموقف وما ترتب عليه من أحداث مؤسفة يمكننا القول: إن “لكل فعل ردة فعل مساوية له في المقدار ومعاكسة له في الاتجاه”، فرِدَّة فِعل الإدارة الرسمية في الحجاز في التعاطي مع موقف معارضة الناس لقرار منع التجارة بالرقيق كان مبالَغًا فيه وعنيفًا للغاية، وهو ما اعتادت عليه معظم الإدارات التركية في الولايات والأقاليم العثمانية، فالتاريخ مُثقَل بالأمثلة والنماذج السيئة للصلف التركي في التعامل مع الشعوب الخاضعة تحت سيادة الدولة العثمانية، ويبدو أن  الوالي التركي قد استغل بعضًا من صلاحياته في عزل الشريف عبد المطلب الذي كان حريصًا أشد الحرص على المحافظة على أنفس الأهالي من تلك الفتنة التي صعَّدها الوالي والعسكر وتعامَلوا معها بوحشية.

أضِف إلى ذلك كله أن الإدارة التركية في الحجاز لم تتعامل بالوعي الديني المطلوب، وكأن المكان مثله كأي مكان آخر على وجه الأرض؟! فأين حُرمة “البلد الحرام”؟ وأين هم من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : “إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ؛ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلا يَلْتَقِطُ لُقطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا، وَلا يُخْتَلَى خَلاهُ”. فهكذا اجتمع الجهل بالدين والصلف والوحشية في التعامل مع أهل البلد الحرام الذي أمَّنه الله.