(الدخما) جعلت جثث موتاهم فريسة للنسور

معتقدات الفرس الزرادشتية تشكلت بثقافة هندية آمنت بالأساطير

ارتبطت معتقدات وديانات إيران القديمة وطقوسها المختلفة بالعقائد المنحرفة، والمرتبطة في معظمها بالأساطير والخرافات، التي تعدُّ جزءًا مؤثرًا في العقلية الفارسية، انطلاقًا من عبادة الفُرس الأوائل للشمس والقمر والنجوم ومظاهر الطبيعة، وهي معتقدات متأثرة بالمعتقدات الهندية.

تشابهت آلهة الهند مع آلهة الفرس كما هو الحال مع الآلهة ميترا، ومهر، وآندرا، وأرونا، وغيرها من الآلهة المعبودة من دون الله، ومنذ القرن السابع والسادس قبل الميلاد ظهرت الزرادشتية التي تُنسب إلى مؤسسها زرادشت، الذي قال عنه الشهرستاني (توفى: سنة 548ه -1153م) في كتابه الشهير الملل والنحل عن الزرادشتية: “أولئك أصحاب زرادشت بن يورشب الذي ظهر في زمان كشتاسب بن لهراسب الملك، وأبوه كان من أذربيجان وأمه من الري واسمها دغدوية، وزعموا أن لهم أنبياء وملوكا أولهم كيومرث، وكان أول من ملك الأرض، وكان مقامه بإصطخر، وبعده أوشنهك بن فراوك، ونزل أرض الهند، وكانت له دعوة ثم بعده طمهودت.. ثم بعده أنبياء وملوك منهم؛ منوجهر ونزل بابل وأقام بها. وزعموا أن موسى عليه السلام ظهر في زمانه حتى انتهى الملك إلى كشتاسب بن لهراسب، وظهر في زمانه زرادشت الحكيم، وزعموا أن الله عزَّ و جلَّ خلق من وقت ما في الصحف الأولى والكتاب الأعلى من ملكوته خلقًا روحانيًّا، فلما مضت ثلاثة آلاف سنة أنفذ مشيئته في صورة من نور متلألئ على تركيب صورة الإنسان، وأحفَّ به سبعين من الملائكة المكرمين، وخلق الشمس والقمر والكواكب والأرض، وبني آدم غير متحركين ثلاثة آلاف سنة، ثم جعل روح زردشت في شجرة أنشأها في أعلى عليين، وأحفَّ بها سبعين من الملائكة المكرمين، وغرسها في قمة جبل من جبال أذربيجان.. وله كتاب قد صنفه، وقيل إن ذلك أنزل عليه وهو زند أوستا، وقد قسم فيه العالم إلى قسمين: مينة، ووكيتي، يعني الروحاني والجسماني وتدعي الزرادشتية أن له معجزات كثيرة”.

يُفهم من كلام الشهرستاني، أن هذه الديانة قامت على الادعاء والأساطير والخرافات، لا سيما أن كتاب زرادشت احتوى شعائر وأناشيد وقوانين بتفاصيل ليس لها أصل أو منطق عقلي. فقط بما يحاكي شعوب أواسط آسيا من تصورات حول قوى الطبيعة التي يؤمنون برمزيتها الإلهية.  

كانت الزرادشتية الدين الرسمي للإمبراطوريات الأخمينية والبارثية والساسانية، وعُرفت بالمجوسية، ويؤكد ول ديورانت في كتابه قصة الحضارة أن الميديين هم الذين أعطوا فارس لغتهم الآرية، وحروف هجائهم التي تبلغ ستة وثلاثين حرفًا، وهم الذين لقّنوهم قوانينهم الأخلاقية، وأرشدوهم إلى أن يعتمدوا أثناء السلم على الزراعة، وأخيرًا لقنوهم دين زرادشت.

الميديون منحوا الفرس أحرفهم وطوروا لغتهم التي يعتزون بها اليوم.

وبذلك آمنت الزرادشتية أن طقس النار القديم رمزٌ للنور، وقانون الإله الكوني، فالفرس منذ ما قبل الإسلام كانوا يدينون بالزرادشتية (المجوسية) المبنية على وحدة الوجود، منحدرة من اتحاد أو حلول بين انبثاقات صادرة عن إلهين اثنين النور والظلمة، وكان مذهب الأكثرية المجوسية يُرجِع مبدأي النور والظلمة إلى كائن أعلى واحد منه انبثق الوجود، ثم جاءت المانوية متفقة مع الزرادشتية في أصل العقيدة.

أما تعبّد الزرادشتية، فلم تكن لهم في البداية معابد خاصة، بل كانت أماكن مجردة يقيمون فيها طقوسهم الدينية، ثم ظهرت بالتدريج بعض الطقوس التي لم يقرّها زاردشت على ما يبدو، مثل استعمال مادة الهاووما، نوع من السم، في طقوسهم وصلواتهم الباطلة، وذبح الثيران تقربًا للإله مترا، وقد دمج زرادشت في ديانته طائفة من المعبودات الفارسية القديمة، وقسّم آلهته إلى نوعين: آلهة خيرِّة وأخرى شريرة ، وعلى رأس النوع الأول (أهورا مزدا)، وتعاونه مع ستة آلهة تعبر عن عن المعاني المجردة، مثل الفكر السليم، والاستقامة، والملك الإلهي، والتقوى والخلاص والخلود.

وعلى رأس النوع الآخر (أهرمان) النضال بينه وبين مزدا، ما يلخص فلسفة الكون لدى الزرادشتية. وعلى العموم فالسمات الظاهرية للزرادشتية مأخوذة من عبادة الهندوس والسيخ، فالنار مقدسة لدى الزرادشتية ويستعملونها في شعائرهم وطقوسهم، وترمز إلى بعض المواد الصافية، كما ترمز إلى الماء والأرض، وانتهى بهم حرصهم على عدم تدنيس مظاهر العبادة إلى التدقيق المبالغ فيه في وسائل التطهير.

يرتدي الزرادشتيون بعض الرموز الدينية باعتبارها جزءًا من لباسهم اليومي لتذكرهم بدينهم، ومن ذلك لبس الحزام المقدس (الكوشتي) المربوط فيه اثنتان وسبعون خيطًا، ترمز إلى فصول كتاب (الياسنا)، ويربط الحزام عدة مرات في اليوم كناية عن ثبات العزيمة أخلاقيًّا ودينيًّا.

ومن رموزهم أيضًا القميص السادري، الذي يرمز للدين نفسه، والكهنة منهم يلبسون أردية بيضاء وعمامات وأقنعة فوق أفواههم أثناء القيام بطقوس النار المقدسة، وذلك كي يتجنبوا تدنيسها بنفس زفيرهم. ولابد للمرء منهم أن يخضع لطقس التطهير قبل الصلاة والاعتراف بالذنوب التي ارتكبت بالفكر والقول والعمل.

كما يرى الزرادشتيون أن الموت من عمل الشيطان، لذلك فالجثة هي مسكن الشياطين، وكلما زاد صلاح المتوفى زادت قوة الفعل الشيطاني، لذلك يعمدون إلى وضع الجثث في بروج الصمت (الدخما) حيث تفترسها النسور، وهم يتشابهون بذلك مع سكان هضبة التبت في وضع جثث موتاهم فريسة للنسور.

  1. محمد الشهرستاني، الملل والنحل، تحقيق: محمد سيد كيلاني (بيروت: دار المعرفة، 1982).

 

  1. عبدالله العباداني، تأريخ الديانة الزرادشتية، ترجمة: عبد الستار كلهور (دهوك: مؤسسة موكرياني، 2011).

 

  1. فراس السواح، موسوعة تاريخ الأديان، ترجمة: عبد الرزاق العلي وآخر (بكين: التكوين ، 2016).

 

  1. محمد غربال، الموسوعة العربية الميسرة (القاهرة: دار الجيل، 1995).

 

  1. ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة: إبراهيم أمين الشواربي (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1947).