"يوم الصفقة والوحشية الفارسية مع العرب"
كان للعرب في الجاهلية أيام اشتهرت، وثَّقتها أشعارهم وتناقلتها ألسن الرواة جيلاً بعد جيل، ومن تلك الأيام الشهيرة “يوم الصفقة”، لإصفاق الباب، وهو إغلاقه، ووقع هذا اليوم في المشقر في هجر بالبحرين أي شرق جزيرة العرب، التي عانت كثيرا تحت نير الاحتلال الفارسي الساساني المقيت ردحا من الزمن، وسبب ذلك اليوم -كما أشار إليه ابن الأثير وغيره من المؤرخين- بأن باذان عامل كسرى أبرويز بن هرمز باليمن، قد أرسل إليه حملاً من اليمن. فلما بلغ الحمل إلى نطاع من أرض تميم أغارت بنو تميم بزعامة صعصعة بن ناجية المجاشعي، الذي خشي أن تنهبه بنو بكر بن وائل فيحاربوهم به فانتهبوه وسلبوا رسل كسرى وأساورته الذين هربوا والتجؤوا عند هوذة بن علي في اليمامة، وكان على النصرانية، فأحسن إليهم وكساهم، وحملهم وخرج معهم، حتى قدم على كسرى فأعجب به، ودعى بعقد من جوهر ودر، فعقد على رأسه، ولذا سمي هوذة ذا التاج، وسأل كسرى هوذة هل بين قومك وبين تميم سلم؟ قال ليس بيننا وبينهم إلا الموت، قال : قد أدركت ثأرك وأراد كسرى أن يوجه الجنود إلى هوذة ليحارب تميمًا، فقال له هوذة: إن بلاد العرب قليلة المياه لا يقوى عليها العجم، وأمره كسرى أن يغزوه هو وعامله على هجر أزاد فيروز بن جشيش، الذي اسمته العرب “المكعبر”، لأنه كان يقطع الأيدي والأرجل، وغزا هوذة مع عساكر كسرى بني تميم، فساروا إلى هجر ونزلوا بالمشقر. وخاف المكعبر وهوذة أن يدخلا بلاد تميم؛ لأنها لا تحتملها العجم وأهلها بها ممتنعون، فبعثا رجالاً من بني تميم يدعونهم إلى الميرة، وكانت شديدة، فأقبلوا على كل صعب وذلول، فجعل المكعبر يدخلهم الحصن خمسة خمسة وعشرة عشرة وأقل وأكثر، يدخلهم من باب على أنه يخرجهم من آخر، فكل من دخل ضرب عنقه. فلما طال ذلك عليهم ورأوا أن الناس يدخلون ولا يخرجون بعثوا رجالاً يستعلمون الخبر، فشد رجل منهم يقال عبيد بن وهب، فضرب سلسلة الباب فقطعها وخرجوا. فأمر المكعبر بغلق الباب مرة أخرى وقتل كل من كان بالمدينة، وكان يوم الفصح، فاستوهب هوذة منه مائة رجل فكساهم وأطلقهم يوم الفصح. فقال الأعشى من قصيدة يمدح هوذة:
سائل تميمًا به أيام صفقتهم لما أتوه أسارى كلهم ضرعا
وسط المشقر في غبراء مظلمة لا يستطيعون بعد الضر منتفعا
بهم يقرّب يوم الفصح ضاحيةً يرجو الإله بما أسدى وما صنعا
ويقول عبيد بن وهب في ذلك أيضا:
ألا هل أتى على النأي إنني حميت ذماري يوم باب المشقر
ضربت رتاج الباب بالسيف ضربة تفرج منها كل باب مضبر
ومن خلال استعراضنا لذلك اليوم الرهيب الذي افتقد معنى الإنسانية بل مثّل صورة من صور الوحشية والانتهازية المقيتة، التي استغلت حاجة الناس للميرة والتزود بالأرزاق للانتقام الجماعي بصورة غير مسبوقة إلا في الحضارة الساسانية، ولعل سابور ذا الأكتاف لم يغب عن ذاكرتنا التاريخية، فالذي يعلم ما وقع على بني تميم يوم الصفقة وفي داخل المشقر يدرك تماما مدى الخبث الذي تعامل به كسرى الساساني مع العرب، ومدى الغدر والخداع الذي هو صفة جينية دنيئة لدى الفرس المجوس، فالطعن من الخلف بصورة غادرة ومفاجئة وعلى حين غرة والقتل بدم بارد، إنما تنم عن جبن وخبث في النفس مع عدم القدرة على المواجهة المباشرة، فاستخدم كسرى النزاعات بين القبائل العربية في جزيرة العرب وجيرها لمصلحته، ولتحقيق أهدافه، وانتقامه منهم من خلال استخدام بعضهم ضد بعض، وهو ينظر من بعيد لمآلات الأمور، وهذه طبيعة الجبناء واللئام، وهذا الأسلوب الماكر استمر مع الفرس حتى بعد الإسلام، فسلاحهم كان الغدر والطعن من وراء الستار، والشواهد كثيرة في تاريخنا الإسلامي، لا يمكن استيعابها هنا، ولازالت تلك الجينات المقيتة بأذرعها المختلفة تعيث في بلاد العرب والمسلمين فسادًا وإفسادًا.