المرأة الغالية
لم تكن الأحداث التاريخية من وحي الخيال ولكنها واقع عاشه الباشا وجنده، وتعد معركة “وادي الصفراء”، من كبرى المعارك التي خاضتها القوات السعودية قبل معركة وادي بسل بين الطائف وتربة، وقد كانت إحدى أسباب نهاية الدولة السعودية الأولى.
وفي تاريخ الجبرتي، وبين ثنايا حوادث سنة 1229هـ / 1813م، يلقي الضوء على الحوادث والوقائع التي وقعت بين الطرفين، فيقول: “والذي أخبر به المخبرون عن الباشا وعساكره أن طوسون باشا وعابدين بك ركبوا بعساكرهم إلى ناحية تربة التي بها المرأة التي يقال لها غالية – البقمية – فوقعت بينهم حرب دامت ثمانية أيام ثم رجعوا منهزمين ولم يظفروا بطائل”.
ويخبر كذلك عن القافلة التي وصلت من ناحية السويس فيقول: وأخبر الواصلون عن واقعة القنفذة، وما حصل بها بعد دخول العسكر التركي وكبيرهم محمود بك وأوغلي وشريف أغا فوجدوها خالية فملكوها، وليس بها غير أهلها وهم أناس ضعاف فقتلوهم وقطعوا آذانهم وأرسلوها إلى مصر ليرسلوها بدورهم لإستانبول، وهنا تساؤل ما سبب كونها خالية، ألم تكن الدولة العثمانية حامية للبلاد والعباد؟!
تتوالى الهجمات العسكرية رغم استبسال مشايخ القبائل والخسائر التي أحدثوها بين صفوف الأتراك، حتى هربوا في سفينة منهزمين، وكان ذلك الانسحاب مثار غضب الباشا محمد علي، فقرر خوض المعارك التالية بنفسه، وبعد استقرار الأمور له في مكة، أرسل ولده طوسون بجيش يحارب كل من كان مواليًا للسعوديين، ونقل بعد ذلك نشاطه العسكري إلى جهة الطائف وما وراءها من الأراضي الممتدة إلى تربة، حيث واجه مقاومة شرسة، ولكنهم في المقابل أوقعوا الخراب والدمار بهجماتهم المتتالية، ومن الأحداث الفاصلة واقعة بسل بالقرب من الطائف سنة 1230هـ / 1814م، انهزمت فيها القوات السعودية، وقد ذكر المؤرخ مسعود عالم الندوي والديجوري وكذلك الرحالة برخاردت، أن وصية الإمام سعود لابنه عبدالله بألا يحارب الترك في سهل – ولكن مشيئة الله فوق كل شيء – ويتابع المؤرخون بأن محمد علي باشا كان في هذه المعركة يرمي بجثث القتلى للوحوش والكلاب، تلك هي أخلاقهم العسكرية.
بعد تمكّن الباشا من تربة، وبعد معركة بسل، والاستيلاء على بيشة وما جاورها من قرى، قُبض على القائدين طامي بن شعيب وبخروش، أسيرين، وكان من أخلاقياته العسكرية أيضًا أنه يدعوهما إليه للتحدث معه رغم الأغلال الثقيلة، ويتضاحك، وقد شبههم من أرخ لتلك الحوادث بالوحوش الضارية التي تعلب بفريستها زمنًا ثم تلتهمها، وقد مُثّل ببخروش تمثيلاً مجردًا من الإنسانية، لأنه لم يستشعر منهما ندمًا أو خوفًا، وردًّا على ذلك طلب من جنوده أن يطعنه كل واحد منهم طعنة غير قاتلة برأس خنجره إطالةً في تعذيبه، وتلقى تلك الطعنات دون أن يستعطف الباشا، وكانت النهاية أن قطع رأسه أحد الجنود، وأرسل مع طامي لاستانبول.
ويقول ديجوري في كتابه حكام مكة: “أن طامي الذي وعده محمد علي باشا بأنه سوف يستسمح فيه السلطان ليطلق سراحه، وعندما وصل إلى القاهرة مثقلاً بالأغلال أمر بإركابه على جمل وعلق رأس بخروش بين كتفيه وطيف به في شوارع القاهرة”، وما الذنب الذي ارتكبه المشايخ والقادة الموالون للدولة السعودية الأولى، حتى يستسمح الباشا سلطانه ليطلق سراحه، ومتى كان إيفاؤهم بالعهود والمواثيق حتى يفعلوا ذلك، بينما هم لم يتمسكوا بالحق وبالدولة السعودية إلا لأنهم وجدوا عندهم ما فقدوه في ظل الدولة العثمانية وحكمهم الجائر على العرب في أوطانهم.
نختم بما بدأنا به وهو ما أرخ له الجبرتي أيضًا فيما يخص عودة محمد علي باشا إلى مصر، ففي تأريخه عن حوادث 1230هـ/1815م، يقول: “وفي ليلة الجمعة 5 رجب وصل الباشا إلى الجيزة، ثم حضر إلى داره بالأزبكية وحضر أكابر الدولة للسلام فلم يأذن لأحد – وشاع في الناس إنه نذر – أي الباشا- إنه إذا رجع من الحجاز منتصرا أن يصرف للناس مخصصاتهم المالية المتأخرة، ولذلك جاء كثير من مشايخ البلدان والأشراف والفلاحون ومعهم بيارق وأعلام مستبشرين، فلما رآهم وعرف سبب مجيئهم أمر بضربهم وطردهم ورجعوا خائبين.
تلك شخصية الباشا وعسكره، وأولئك أبطال الجزيرة العربية من أئمة البيت السعودي ورجالاتها.
وأختم بما كتبه المؤرخ الفرنسي غوان عن المرأة الغالية قال عنها: “إن غالية كانت في نظر المصريين، ساحرة تعطي الجنود سرًّا يحفظهم من الهزيمة فلا يستطيع أحد أن يغلبهم”، ويشبهها الفرنسيون ببطلتهم الخارقة جان دارك في محاربة الإنجليز الذين احتلوا جزءًا من فرنسا قديمًا.
ولأنه واقع مرير مروا به اعتبروه ضربًا من الخيال ولكنها غالية.