تدهور جدة تحت الحكم العثماني

يعتبر ميناء جدة من أهم الموانئ، ليس فقط على الساحل الشرقي للبحر الأحمر، بل في البحر الأحمر على وجه العموم؛ إذ يأتي بعد ميناء السويس في الأهمية الإستراتيجية والملاحة التجارية.

كما استمد ميناء جدة أهميته أيضًا من كونه ميناءَ مكة المكرمة على البحر الأحمر، حيث يمد مكة باحتياجاتها المختلفة، خاصةً في زمن الحج، فضلًا عن وصول سفن الحجيج إليه من مختلف بقاع الأرض.

وترصد لنا حوليات التاريخ الإسلامي أهمية ميناء جدة عبر مئات السنين، ودوره المحوري في المنطقة، وتصل ذروة هذا الدور في عصر سلاطين المماليك، حيث أدركوا أهمية موقع جدة ودورها الإستراتيجي والتجاري الملحوظ، ولذلك حرص سلاطين المماليك على مد نفوذهم إلى جدة ومنطقة الحجاز عمومًا، وحَظِيَ ميناء جدة باهتمامٍ خاص من جانب سلاطين المماليك، ربما يتَّضح ذلك جليًّا في العديد من الأوامر التي أصدروها من أجل إنعاش حركة التجارة في جدة، ومنها على سبيل المثال: تخفيض الرسوم الجمركية على السفن والبضائع التي تمر عبر جدة.

وشهد مطلع القرن السادس عشر ازدياد خطر الاستعمار البرتغالي وعربدته في المياه الإسلامية الجنوبية، وهنا أدرك السلطان قنصوه الغوري مدى خطورة ذلك على جدة، سواء لتأثيره على حركة التجارة، أو لقُرب جدة من مكة المكرمة، والخوف على الحرم المكي الشريف، وعلى ذلك بدأ السلطان الغوري في تحصين الميناء، وبناء سور لمدينة جدة لحمايتها من هجمات السفن الأوروبية، وأتم ذلك في عام 1509م.

لكن سرعان ما هُزم السلطان الغوري على يد السلطان سليم الأول في عام 1516م، ثم دخل سليم الأول إلى القاهرة في عام 1517م، حيث مد نفوذه بعد ذلك إلى الحجاز.

وعلى عكس سلاطين المماليك عجز العثمانيون عن مواجهة الخطر البرتغالي، سواءً في مياه البحر الأحمر، أو في الخليج العربي، وأدى ذلك إلى تعرُّض جدة إلى العديد من الهجمات البرتغالية الشرسة في القرن السادس عشر، ولم تكن البحرية العثمانية آنذاك على نفس مستوى البحرية البرتغالية التي كانت تَجُوب المحيطات، واستطاعت أن تفرض نفوذها على المياه الإسلامية الجنوبية حتى الهند، بل ووصلت إلى شرق آسيا.

وأمام العجز العثماني عن مواجهة البحرية البرتغالية لجأ العثمانيون إلى سياسة إغلاق البحر الأحمر أمام حركة الملاحة العالمية تحت دعوى حماية البحر الأحمر، والحيلولة دون وصول السفن البرتغالية إلى جدة، وتهديدها لمكة المكرمة، وكانت السفن التجارية تصل من آسيا إلى جنوب البحر الأحمر؛ لتفرغ حمولتها، ثم يُعاد نقل هذه البضائع على سفن عثمانية، لتمر عبر البحر الأحمر إلى جدة في وسط البحر، والسويس في الشمال، لتُنقَل بعد ذلك بَرًّا إلى سواحل البحر المتوسط، ومنه إلى أوروبا.

والحق أن هذه السياسة الدفاعية السلبية أدَّت إلى إضعاف حركة التجارة العالمية في البحر الأحمر، وانعكس أثرها على جدة بشكل كبير؛ إذ فقدت الكثير من أهميتها التجارية نتيجة تَعثُّر حركة التجارة الدولية من جراء إغلاق البحر الأحمر أمام السفن الأجنبية.

ومع مطلع القرن الثامن عشر تبدأ حركة التجارة في الانتعاش من جديد في ميناء جدة، نتيجة ازدهار حركة تجارة البن من اليمن والحبشة، وكذلك الأقمشة الهندية، وتصدير ذلك عبر البحر الأحمر إلى الشمال.

لكن للأسف الشديد لن يستمر هذا الازدهار كثيرًا؛ إذ تتغير الأحوال في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، مع ظهور مناطق جديدة لتصدير البن، ومع ضعف المنسوجات الهندية أمام المنسوجات الأوروبية في الأسواق العالمية، وللأسف الشديد لم تستطع السلطات العثمانية التدخل لحماية تجارة البحر الأحمر، التي هي مصدر دخل كبير لولاياتها، بل والأكثر من ذلك غزت المنسوجات الأوروبية، وبن جزر المحيطات البعيدة حتى الأسواق العثمانية، مما أدَّى إلى تَراجُع تجارة البحر الأحمر ومن ضِمنها بالقطع جدة.

ولا يقتصر الدور السلبي للسلطات العثمانية على عدم حمايتها لتجارة البحر الأحمر، وتأثير ذلك على جدة، بل يمتد إلى أسلوب الإدارة العثمانية في حكم جدة والتعامل مع الحجاز، وتزخر كتب الرحلة والرحَّالة بالعديد من الأمثلة عن سوء الإدارة العثمانية، وعدم قدرة الوالي العثماني لجدة على إدارة الأمور، ويشير بعض الحجاج الروس المسلمين إلى سوء معاملة الجنود العثمانيين للحجاج عند وصولهم إلى جدة والحجاز، كما يشير هؤلاء إلى نقطة مهمة، وهي أن الأتراك العثمانيين لم يهتموا بإقامة أية صلات مَودَّة أو ثقة مع السكان المحليين.

والأكثر من ذلك أن والي جدة العثماني كثيرًا ما تَدخَّل لإذكاء الصراعات المحلية بين فروع الأشراف، وكان لذلك انعكاسات سيئة على جدة نفسها.

ويذكر الزيني دحلان أثر سياسة الوقيعة العثمانية، أنه في أحد الصراعات “لما دخلوا إلى جدة وملكوها في هذه الواقعة نهبوا غالب دُور أعيانها الكبار والحواصل التي فيها أموال التجار وتركوا البندر خرابًا بعد العمار”.

هكذا أدَّى سوء الإدارة العثمانية، وعدم القدرة على دعم وحماية تجارة البحر الأحمر إلى تدهور أحوال جدة، وسوء الأحوال الاجتماعية والاقتصادية، ولم تسترد جدة مكانتها المهمة من جديد إلا مع افتتاح قناة السويس في عام 1869، هذا الأمر الذي مثَّل بدايةً جديدة لنمو مدينة جدة والمناطق المحيطة بها، خاصةً مع انتعاش حركة التجارة في البحر الأحمر، وظهور السفن التجارية.