انحدار الدولة العثمانية
كانت الدولة العثمانية والمجتمع العثماني في مركز السلطنة حتى ثمانينات القرن 16م يعطيان الانطباع بوجود انسجام وتوازن في النظام والمُثل العليا، وبعبارة أخرى كان هذا المجتمع غير مهتم بالتغيير، بل يريد الحفاظ على النظام القائم، وكانت الطبقة الحاكمة، بمن فيها القادة العسكريون والعلماء، يتمتعون بمداخيل كبيرة ومضمونة باستمرار، وقد أخذ إنفاقها على السلع الفاخرة يزداد باستمرار، ولم يَعُد السلاطين والوزراء فقط يوصون ببناء المنشآت العمرانية الضخمة ويؤسسون الأوقاف، تلك ملاحظات خليل إينالجيك على تاريخ دولته، ويستطرد لإيضاح أن الحروب المتناثرة سبب للفوضى والاضطراب وخلخلت أركان الدولة، وكانت وعِبئًا كبيرًا دفع ثمنه الولايات التي ترزح تحت سيطرتهم.
لم تَعُد الرعية تنفذ أوامر السلطان، كما أن العسكر تمرَّدوا على سلطانهم، وحتى احترام الممثلين للدولة انعدم، بل أصبحوا يهاجمون بالصفعات وليس بالكلمات، كان الكل يتصرف كما يريد، وأخذ السكان ينزحون من مواقع الفوضى إلى الهدوء النسبي، وعانوا من ظلم واضطهاد، وانهار النظام القديم، ومع سقوطها النهائي لا بد أن يحدث الانهيار بشكل مؤكد.
يؤكد إينالجيك أن الاحتقان الداخلي الذي حل بين القوات المتنافرة وهم “السكبان” و”السراجة”، والتنافس أصبح في أرجاء الدولة، وكانت القوات تتنكر بزي القابي قولي؛ لأن هذه القوات تتمتع بامتيازات خاصة، فكانوا يلتفون حول التمردات ويهاجمون دون رحمة قوات القابي قولي – وصف خطير لم يسلط عليه الضوء مؤرِّخو التاريخ العثماني المقدِّسون لها – وقد استطاعوا السيطرة على شرق الأناضول بقيادة عباس محمد باشا في نهاية الثلث الأول من القرن 17م.
لقد انحلت المؤسسات الأساسية للإمبراطورية العثمانية الكلاسيكية تحت تأثير أوروبا الجديدة، ولم يتمكن العثمانيون من التكيُّف مع الظروف المتغيرة، وفشلوا في فهم مشاكل الاقتصاد الحديث، ولذلك بقوا مُطوَّقين بالأُطُر التقليدية لدولة الشرق الأدنى، وأصبحوا كالغراب الذي حاول أن يقلد مشية الحمامة وفشل، وعندما أراد أن يرجع لحاله تعثر، ومحاولاته أصبحت ضده، وجعلته أضحوكة ومَضرِبَ مَثَل.
تلاحقت الأزمات الداخلية ضد بقاء الدولة كتاريخ يمثِّل عند البعض أنها دولة خلافة، وأي خلافة يقصدون، وللقراءة في عمق الأحداث أدلة وبراهين تؤكد أن التسارع في التوسع والاستطراد ومحالة اللحاق بالاتحاد مع أوروبا أضرَّهم، ولكن الكبرياء والمكابرة قادتهم إلى السقوط المدوِّي، وكانت الأزمة العميقة منذ العقد الأخير من القرن 16م أدت إلى إحداث تغيُّرات جذرية فتحت المجال لعهد اعتقدوا أنه جديد ومنقذ، فلا هي حافظت على مؤسساتها في الداخل، ولا القدرة على التكيف مع الظروف والأحداث السياسية التي استجَدَّت على مسرح التاريخ، ورغم مرورهم بفترة هدوء نسبي خلال منتصف القرن 17م، فإنها بَدَت إمبراطورية هشة مختلفة في جوهرها عن ظاهرها.
كان طموحهم حكم العالم، وذلك منذ عهد القانوني حيث كتب في نقش بقلعة بندر ما وصل إليه من قوة : “أنا عبد الله وسلطان هذا العالم، ورأس مِلَّة المسلمين بفضل الله عليَّ، قدرة الله والسنة المعظمة لمحمد هي التي ترشدني، أنا سليمان الذي يُذكر اسمي في الخطبة بمكة والمدينة، في بغداد أنا الشاه، وفي بيزنطة أنا القيصر، في مصر أنا السلطان، أُرسل سفني في مياه أوروبا والمغرب والهند، أنا السلطان الذي حاز على تاج وعرش هنغاريا، وحوَّل سُكَّانها إلى رعية مطيعة، تجرَّأ القائد بيترو على التمرد ضدي، ولكني دُسْتُه بحوافر حصاني، وأخذت بلاده مولدافيا”.
نظرة سريعة للغة الخطاب وردت كلمة “أنا” 6 مرات، وللقارئ أترك محاولة استيعاب تلك البوهيمية ولغة التحدي الصارخ التي جعلته ينسى الصلاة على المصطفى عليه أفضل صلاة وأتم تسليم، وإعلان “الأخذ” لمولدافيا، والكيفية التي قضى بها على “بيترو”، وهو قائد لأمة مترامية الأطراف وقدوة لزمانه، ماذا ترك للبيزنطيين والغرب من عنجهية وجنون عظمة السلطة؟ تحدٍّ جلب لدولته ولمن جاء بعده الويلات، ورد لمن يحاول أن يجعلها للتاريخ نبراسًا يُحتذى به.