مذكرات خير الدين آغا والقصر السلطاني
مع ضعف الدولة العثمانية، وعلى وجه الخصوص إثر الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، نُشِرَت في الصحف العديد من المذكرات والذكريات لشخصيات عثمانية، بعضها من أبناء الأسرة أو من كبار رجال الدولة، ودار جدل كبير حول مدى صحة نسب هذه المذكرات أصلاً إلى أصحابها، وأحيانًا حول مدى دقة المعلومات الواردة فيها، ووجّه بعض الأتراك أصابع الاتهام إلى أجهزة مخابرات الحلفاء، وضلوعها المباشر وتمويلها لهذه الحملة الإعلامية.
ومهما يكن من أمر صحة ومصداقية هذه المذكرات، أو الجهة التي تقف وراءها، فإن نشرها كان بمثابة فتح الباب لمناقشات ساخنة ومستمرة لحال الدولة العثمانية في أيامها الأخيرة.
من هذه المذكرات، مذكرات خير الدين آغا في عصر السلطان عبد الحميد الثاني، التي نُشِرَت في الصحافة أولاً، ثم أُعيد نشرها على هيئة كتاب بعد ذلك، ووضع خير الدين آغا، أو محرر الكتاب، عنوانًا مثيرًا لهذه المذكرات وهو “أسرار الحريم في البلاط العثماني”.
وفي هذه المذكرات يُلقي خير الدين آغا أضواءً هامة على ما يدور في كواليس القصور العثمانية. ويبدأ خير الدين آغا في شرح طبيعة “الآغا” ومهامه، وكيف يُجْلَبون إلى القصر وهم أطفال، أو في بداية الشباب، بعد استئصال قدراتهم الجنسية.
ويوضح خير الدين آغا السر وراء هذا الفعل المشين؛ فالآغا في هذه الحالة يمكنه العمل في الحرملك، وفي معية الحريم وحمايتهم دون خوف من نشوء علاقة جنسية بينهم وبين الحريم السلطاني. ومع ذلك يحدثنا عن علاقات ملاطفة بين بعض الأغوات وحريم القصور، نتيجة أن إخصاء العبد لم يكن كاملاً، أو تم في سنٍ متأخرة، أو حتى نتيجة إجبار سيدات القصر الآغوات الشباب على فعل ذلك.
ويحدثنا خير الدين آغا عن أوضاع الأغوات ودرجاتهم منذ قدومهم صغارًا إلى القصر حتى تدرجهم في المراتب، وصولاً إلى الدرجة العليا الرفيعة “آغا دار السعادة”، ومدى تأثير هذا الأخير على حريم السلطان، بل على صناعة القرار داخل البلاط العثماني.
ويعطينا خير الدين إشاراتٍ هامة حول أوضاع الجواري في القصور العثمانية ونمط تربيتهن، والمشرفات عليهن، والمحظيات منهن للسلطان. وهناك تفاصيل مثيرة عما يحدث وراء الستار من مجونٍ مثل دخول السلطان إلى المغطس “الحمام” وحوله الجواري شبه عاريات، والطقوس المصاحبة لذلك.
كما يحدثنا خير الدين عن الحفلات الصاخبة في القصور العثمانية، وما يرتبط بها من مظاهر بذخ وإسراف، في وقتٍ كانت الدولة العثمانية تعاني فيه من أزماتٍ اقتصادية طاحنة.
لكن الأمر الأكثر إثارة في هذه المذكرات هو ما يمكن أن نسميه مؤامرات ومكائد الحريم في القصور، ومن هذه الحكايات المثيرة قصة غيرة السلطان عبد العزيز على فريحة هانم، وشكه أنها ما زالت على علاقة مع حبيبها السابق حسن بك، وإبعاد الأخير إلى اليمن، حتى يتأكد السلطان أنها له هو وحده.
ومن القصص المثيرة أيضًا قصة غرام الأمير مراد، الذي سيصبح بعد ذلك السلطان مراد، بفتاة بلجيكية، وعندما تعلم زوجته بالأمر تدبر مؤامرة لقتل الفتاة، وتطلب من أحد محبيها تنفيذ ذلك، لكن أحيانا تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، إذ تذهب برتو باشا- وهي زوجة الأمير مراد- ضحية للمؤامرة التي تهز أرجاء القصر العثماني.
إن هذه المذكرات مهما يكن رأينا فيها، أو النقد الذي يوجه إليها، أو حتى تاريخ صدورها مع زوال الدولة العثمانية، إلا أنها تشير إلى أحد أسباب سقوط الدولة العثمانية وهو تصدع البناء الداخلي، جراء مؤامرات الحريم، وحياة الترف والبذخ في القصور العثمانية، بينما كانت الدولة تمر بأسوأ مراحلها التاريخية.