اصطبغت به المذاهب الباطنية في الإسلام

فكر الفرس الديني منبع الفتن والنزاعات والاغتيالات على مر التاريخ

إن فهم البنية السلوكية التي تعكس ظاهرة الاستعلاء العِرقي للفرس لا يمكن فهمها دون الرجوع إلى الإرهاصات الأولى لتشكل المجتمع الفارسي. وهو المدخل الذي يعدُّ ضرورة إبستمولوجية لرصد التراكمات التي جعلت من العِرق الفارسي من يتبنون السلوك العنصري والصدامي مع كل ما هو عربي، خاصة بعدما تمكنوا من ناصية القرار السياسي في إيران.

في هذا السياق، يجب الانطلاق من مُسَلَّمة أساسية مفادها أن عداء إيران للدول العربية والسُّنِّيَّة غير مرتبط “في أصله” بالبعد الديني والعقدي، وإلا فكيف نفسر العداء الإيراني الشديد لشعب الأحواز وهم، في الأغلب، شيعة إمامية جعفرية؟ كما لا يمكن تفسير عدائهم للمسلمين الأكراد، وهم سنة، بالارتكان إلى المعطى الطائفي.

يعد مركز ثقل الإشكالية إخضاع المنظومة العِرقية الفارسية للبحث والتحليل العرقي والعقدي، كمقدمة لفهم طبيعة العداء المرضي للعرب باعتبارهم عِرقًا حاضنًا لرسالة الدين ولسانًا جامعًا لكلمة المسلمين، وهو ما يرى فيه الفرس احتكار غير مقبول لرسالة خاتم الأنبياء والمرسلين، ولو ادعوا أنهم يستقون من صميم الدين ومن هدي الرسول الأمين.

التدقيق التاريخي يقطع بأن إيران هي التسمية القديمة للمنطقة، على اعتبار أن إطلاق تسمية بلاد فارس على إيران الحالية هو من قبيل إطلاق الاسم الخاص على الكل، ففارس ليست إلا الإقليم الجنوبي الغربي من إيران، وقد أطلق هذا الاسم على الأرض الإيرانية كلها.

من هذا المنطلق، تعود أصول الفرس إلى الشعوب الهندو-آرية التي هاجرت من أواسط آسيا إلى هضبة إيران في الألفية الثانية قبل الميلاد، وقد كانت بلاد فارس جزءًا من الإمبراطورية السومرية والأكادية،  ويمكن حصر المجال الجغرافي المرجعي للفرس وسط إيران في الأهواز جنوب أصفهان، وهناك خضعوا لمجموعة من الإمبراطوريات والمماليك، قبل أن يتمكنوا من إقامة دول قوية تمثلت في الإمبراطورية الأخمينية، ثم الدولة الساسانية التي تعد بمنزلة الإمبراطورية الفارسية الثانية.

وعلى المستوى العقدي، انتشرت مجموعة من “الديانات” في منطقة فارس ولعل أهمها؛ الديانة الزرادشتية، والديانة المزدكية ثم اليارسانية والمندائية. ولقد عرفت هذه الديانات انتشارًا متباينًا باسثناء الزرادشتية التي انتشرت بشكل واسع، بل ألهمت مجموعة من الفلاسفة وعلى رأسهم فريديريك نيتشه الذي ألف كتابًا مهمًّا بعنوان “هكذا تكلم زرادشت”.

وتأصيلًا لنشأة فكرهم الديني، فإن تاريخ الفرس امتدّ لقرون قبل الميلاد، مؤسسين حضارات قديمة، ما جعلهم يُبالغون في التغني بتاريخهم وحضارتهم، متعصبين لجنسهم، ذلك الذي دعاهم إلى اعتبار ملكهم الأول (كيومرت) ابنًا لآدم لكونه أصلاً للبشرية جمعاء، وفي طرح آخر يعتبرونه آدم نفسه عليه السلام.

اتجه الأغنياء والمرفهون إلى الديانة المزدكية لما فيها من إباحة لأعمال الفسق والفجور وتَنَكُّر للقيم الإنسانية.

بدأ الفكر الديني الفارسي بطقوس أوليَّة منذ فترةٍ مبكرة في الفكر الفارسي تعتقد بتقديس طبقة رجال الدين، ومن ثم رفعوا -بحسب الطبقية الفارسية- إلى المرتبة الأولى قبل رجال السياسة والحرب والإدارة وعوام الناس في المجتمع الفارسي. واعتمدت طبقة رجال الدين الفرس على دُغماتية دينية جعلت من المجتمع بكل طبقاته تابعًا ومنقادًا لها بعواطفه وتفاعلاته ومصالحه، وهذا ما يؤكد أن منابع الفكر الباطني والصوفي المُغالي من منطلقات ومنشأ فارسي، كما يُثبت تاريخ هذه الأفكار ورجالاته.

والفرس بمختلف معتقداتهم القديمة والحديثة من وثنيتهم حتى إسلامهم أخذوا منهجًا واحدًا معتمدًا على كونهم متفقين على تقديس رجال الدين والفكر الكهنوتي، باعتبارهم وسطاء بين الناس والتشريع أيًّا تكن فلسفته ومنطلقاته. ولأهمية هذه الطبقة الدينية ورجالاتها في الفكر الفارسي؛ فإنها تفرعت وتشعبت كما الأفكار الدينية المُشابهة التي تؤمن بالوصاية الدينية للبشر، فكانت لديهم تفرعات في طبقة رجال الدين، تتفق بشكلٍ أو بآخر مع وجود حُكَّام، عُبَّاد، زُهَّاد، سَدنة، معلمين.

آمن الفرس بخصوصيتهم في فكرهم الديني، باعتباره ابتكارًا عرقيًّا خاصًا بهم، حتى حين دخلوا الإسلام أضافوا عليه فكرهم القديم، حتى عُرفت طرائقهم بالباطنية التي تنسلخ دائمًا من نقاء الإسلام بأسرارها وقداساتها وأكاذيبها وخرافاتها.

ولفهم الارتباطات العميقة في الفكر الديني للفرس؛ يجب أن نُلقي الضوء على دياناتهم القديمة، إذ تُعدُّ ديانة (مزدا الحكيم) أقدمها، حين آمن قدماؤهم بأن مزدا إله القبائل المستقرة والمتمدنة، معتبرين إياه إله العالم كله. واعتقد قُدماء الفُرس أن (مزدا) الإله الأعلى المُرسل للأنبياء والخالق بكل تفاصيل الإله المُطلق، واعتبروا ملوكهم كيومرث وزرادشت أنبياء له. وقالوا بأنه خلق ملائكةً حوله، أكثرهم قوةً (بهمن)، وهو الاسم الفارسي المتداول وقد تسمت به بعض العائلات الفارسية إلى يومنا الحالي.

ومن خلال مراحل الفكر الديني القديم للفرس؛ نجد أنهم عبدوا قوى الطبيعة، فكانت صلاتهم للشمس والقمر والماء والنار، والنار تحديدًا مثلت قوةً لهم، حتى أنهم لا يطفئونها في بيوتهم ويحرصون على ألا يخبوا لهيبها، واختصر هذا الفكر بالمجوسية وتفرعاتها.

وفي مراحل متأخرة من التاريخ الفارسي القديم؛ تأثروا باليهودية والنصرانية والبوذية، فمنذ حلول اليهود أرض الفرس بعد السبي البابلي، وبعد ذلك بقرونٍ عدَّة؛ وجد الفرس أنفسهم ينهجون السريَّة والتقيَّة تأثرًا باليهود، مقابل انتشار النصارى بينهم حتى ثار الناس على النصرانية في فارس سنة (339م).

ومن خلال تتبع منشأ الفكر الديني الفارسي القديم؛ نلحظ أنه ارتكز على تقديس رجال الدين منذ القدم، وكانت سيطرتهم على المجتمع الفارسي واضحة، كذلك كان لمبادئهم وأصول فكرهم سريَّة وتقيَّة اعتبروها أصلاً في فكرهم الديني.

واشتهر عن الفكر الديني الفارسي كثرة إثارة الفتن والنزاعات والاغتيالات في سبيل تصفية خصومهم، على خلفية صراعاتهم الدينية الباطلة. وهذا ما يدعونا للربط بين ما حدث في بداية دخولهم الإسلام وباطنيتهم وأصول معتقدهم القديم، الذي انعكس على إسلامهم الملطخ بالفتن والدموية والخرافات.

الديانة الزرادشتية:

من رحم (مزدا) تفرعت الزرادشتية، إذ يُعدُّ زرادشت عند الفرس نبيًا مُرسلاً من مزدا، وتتلخص فلسفة الزرادشتية بين النور والظلمة التي تفسر الخير والشر، ويؤمنون أنهما مبدأ وجود العالم، باعتبار أن كل شيء خُلق وحدث بين هذين الضدين. وحسب الزرادشتية فإن مزدا يمثل الخالق والنور والخير، والشيطان يمثل الظُلمة والشر، ومن تفرعات فكرهم أن الماء مُقدس يمثل الخير، لذلك نجد الزرادشت يقدسونه بعدم غسل وجوههم بالماء، إذ يقتصرون على شربه وري مزروعاتهم.

وهذه الديانة قوامها مجموعة من الأساطير تلك التي تحيط بشخصية “زرادشت”، وهو ما يجعل الباحث يركز على أهم المعتقدات التي رسخت لها الزرادشتية بعيدًا عن التأصيل لأصل المعتقد، الذي تناولته مجموعة من الباحثين بكثير من التفصيل.

وبين مزدا وزرادشت تكمن الحكمة وفق الفكر الفارسي للربط بينهما، بينما أخذ زرادشت بُعدًا بشريًا في فكرهم، إذ يقولون إنه ولد في أذربيجان من أمٍ فارسية، ويعتقدون أن مزدا خلق روح زرادشت ووضعها في شجرة تَحُفُّها الملائكة المقربون، وغُرست في جبال أذربيجان.

وبربط بين ما هو موجود في الثقافة الفارسية القديمة والحديثة والمعاصرة؛ نجد أن أذربيجان تمثل للفرس منبعًا ومصنعًا لرجال الطبقة الدينية، إذ لا تزال إلى اليوم تستورد بعض رجال طبقتها الدينية من الجنس الآذاري التركي، كما هو الحال مع المرشد الإيراني الحالي علي خامنئي.

ويعتزّ الفرس بمعتقداتهم القديمة حتى بعد إسلامهم، الذي صبغوه بفكرهم القديم، لذلك تعد آثار زرادشت في الثقافة الفارسية ككتاب (زند أوستا) أو ما يُسمى الأفستا مصدرًا مهمًا، يُقسم العالم إلى قسمين: مينة وكيتي، الروح والجسد، بما يُحاكي اللاهوت والناسوت في الثقافات الدينية الأخرى.

وبخصوص “الكتاب” الذي جاء به هذا الدين الفارسي، فإن ويل ديورانت يقول عنه: “هو في الحقيقة عبارة عن مجموعة من الكتب استوعبت ما جمعه تلاميذ زرادشت من أقوال وصلوات؛ وقد أسماها بعض أتباعه المتأخرين الأفستا. واشتبه الأمر على بعض العلماء المحققين فسموها خطأ بالـ “زندافستا” وأصبحت لذلك تعرف لدى الغربيين بهذه التسمية الخاطئة”.

آمن زرادشت بأن الإله واحد وأطلق عليه لقب “الإله الحكيم”، واعتبر النار والماء والأرض والهواء عناصر نقية وأن النار تمثل نور الله أو حكمته. ويصلي الزرادشتيون عدة مرات في اليوم ويمارسون العبادة الجماعية في معبد النار…وخلافًا للمسيحية، يحرُم الصيام والتبتل عندهم إلا جزء يسير من طقوس التطهير.

الديانة المانوية:

المانوية منسوبة لماني المولود سنة (215م)، ظهر في زمن سابور أردشير، وقتله بهرام بن هرمز بن سابور سنة (279م)؛ لأنه تعارض بزهده مع سياسة بهرام التوسعية المحاربة. (ماني) لم يكن كمزدا الأسطوري ولا زرادشت الآذاري، فـ (ماني) فارسي الأم والأب من العائلة الأشكانية الملكية، والده فاتك الحكيم. وقد أدخل ماني فكرة تناسخ الأرواح في الفكر الديني الفارسي مستفيدًا من البوذية والثقافة الهندية.

تناغم ماني مع زرادشت في فلسفة النور والظلمة، كما استفاد من عقيدة التثليث النصرانية، إذ قال: الإله مكوَّن من ثلاثة: العظيم الأول، الرجل القديم، أم الحياة. لذلك آمن ماني بزرادشت ونبوءة عيسى بن مريم عليه السلام، ويعد ماني نفسه آخر الأنبياء المُبلغين عن الله.

أسَّس ماني مرحلةً جديدة في الفكر الديني الفارسي، حين جاء بكتابٍ ادعى قداسته اسمه (البستاه)، لذلك رأى الفرس أنه وأتباعه زنادقة، لأن ماني جعل للبستاه تفسيرًا مناقضًا له باسم (الزند)، وفسر الزند بـ (البازند)، لذلك جاءت كلمة زنديق في الثقافة الفارسية لأتباع الزند لتناقضهم الشديد وشذوذهم العقلي والفكري.

اصطدمت المانوية بالزرادشتية، وذلك جعل السلطة الفارسية تضطهد المانويين الذين اعتبروا نبيهم المزعوم ماني شهيدًا حين قُتل على يد بهرام، لذلك استمرت المانوية بدعوتها سرًّا، هربًا من الملاحقة والاضطهاد الزرادشتي.

الديانة المزدكية:

سنة (487م) ظهر مزدك بن بامداد، وأطلق على فكره المزدكية، وكان يدعو للإباحية والفكر المُشاع الذي يتقاطع مع الشيوعية بمعانيها الأوليَّة، ذلك ما أحدث أزمةً بتطبيق تعاليمه، إذ لم يكن الرجل يعرف ولده ولا الابن والده، ولم يستطع الناس امتلاك ما في أيديهم.

تحولت المزدكية من كونها فكرًا دينيًا لدى الفرس إلى فكرٍ اجتماعي، أسَّس للقوانين الثورية المدمرة للمجتمعات، وكاد التنظيم الاجتماعي الفارسي ينهار لولا تسلم السلطة كسرى الأول أنوشروان بن قباذ الذي رد أملاك الناس. ولكن لا زالت بعض مبادئ المزدكية تطبق بأطر دينية متطورة لدى الفرس.

لجأ المزدكيُّون إلى السرية في معتقدهم، وقد قَلَّ دورهم، خاصةً في عصر الدولة الساسانية، ولم تعد وتنشط من جديد إلا بعد الفتوحات الإسلامية في بلاد فارس، حين ثار المزدكيون وسعوا إلى الفتنة بين الناس وتطاولوا على الأحرار.

وتعد المزدكية من بين الديانات الفارسية الإباحية القديمة التي انتشرت على نطاق ضيق، خاصة بين الشباب والأغنياء والمترفين، وترتكز على إشاعة الفاحشة والإباحية والتنكر للقيم الإنسانية. والمزدكية هي أقرب إلى بدعة سلوكية منها إلى “ديانة” بالمفهوم اللاهوتي، حيث تقوم على التحريض والفوضوية وتقديس الغريزة الجنسية والدفاع عن الاشتراكية في الأموال والنساء والأعراض.

وكعادة الثقافة الفارسية في الخلط بين الديانات فإن المزدكية خلطت مع الزرادشتية وكونت تقاطعًا بين الفكرين والديانتين، لولا أن المزدكية كانت أكثر إباحيةً.

الديانة اليارسانية:

تعد الديانة اليارسانية من الديانات المنشرة بين أكراد غرب إيران وشمال شرق العراق، وظهرت هذه الديانة الباطنية في القرن 12م على يد السلطان إسحاق البرزنجي الملقب ب “فخر العاشقين”، ويربطها البعض بالديانة اليزدانية القديمة ويجعلها فرع لهذه الأخيرة، ويبدو أن التقية التي تميز بها اتباع “الطريقة” صعبت من مهمة إحصائهم وتمييزهم رغم التقاطعات مع المذهب الشيعي في تقديس علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وكذا الامتداد الصوفي لليارسانيين.

الديانة المندائية:

يَعُدُّها أتباعها من أقدم الديانات ويطلق عليهم الصابئة المندائيون، ويدَّعي هؤلاء اتباعهم أنبياء الله آدم وشيت وإدريس ونوح وسام بن نوح ويحيى بن زكريا.

ورغم أن الدستور الإيراني لا يعترف بهذه الديانة إلا أن أتباعها منتشرون في الأحواز (غرب إيران) على الحدود العراقية في مدينة أهواز بالمحاذاة مع نهر “كارون”، وحسب بعض المراجع فإن عدد الصابئة المندائيين يناهز 25 ألف شخص يطالبون بالحق في الاعتراف الدستوري، وهو ما وعدت به السلطات الإيرانية من خلال العمل على إلحاق فقرة في الدستور تدرج ديانتهم ضمن الديانات المعترف بها.

  1. حسن الجاف، موسوعة تاريخ إيران السياسي (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2008).

 

  1. خالد القط، “التأويل الباطني وأثره في عقائد المذاهب الباطنية”، مجلة جامعة طيبة للآداب والعلوم الإنسانية، السنة الثانية، ع. 4 (1435هـ).

 

  1. خزعل الماجدي، علم الأديان (الرباط: مؤمنون بلا حدود، 2016).

 

  1. شاهين مكاريوس، تاريخ إيران (القاهرة: مطبعة المقتطف، 1998).

 

  1. ميرسيا إلياد، تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية، ترجمة: عبدالهادي عباس (دمشق: دار دمشق، 1987).

 

  1. ويل ديورانت، تاريخ الحضارة، ترجمة: إبراهيم الشواربي (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1947).