تاريخ العثمانيين المزيَّف

تمت صياغته بأقلام "عربية" مؤدلجة

هناك ظاهرة مهمة وخطيرة في الأدبيات التاريخية العربية، وهي التضخيم من الدور الذي لعبته الدولة العثمانية في التاريخ العالمي بشكلٍ عام، والتاريخ العربي على وجه الخصوص، بل ويصل الأمر إلى ذروته في بعض الأحيان لمحاولة صناعة تاريخ مقدس للخلافة العثمانية، على أساس أنها آخر مراحل الخلافة الإسلامية، وأن الغرب الصليبي هو الذي حرص على إسقاط هذه الخلافة، حتى يستطيع التهام العالم العربي، وفي القلب منه فلسطين من أجل إقامة إسرائيل.

محمد فريد والشناوي أسسا لأدبيات تاريخية مشوهة.

في الحقيقة تجد هذه الظاهرة مجالًا للنشاط والانتشار في لحظات الضعف التي تمر بها المنطقة العربية عبر التاريخ، كما تُوَظَّف جيدًا لصالح تيارات الإسلام السياسي، خاصةً في لحظات صراعها مع الأنظمة السياسية في العالم العربي.

وربما نجد أصل هذه الظاهرة في فترة نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، وهي فترة ضعف الدولة العثمانية أصلًا، ونجاح الاستعمار الأوروبي في التهام بعض الولايات العربية. وبالقطع لن نستطيع في مثل هذا المقال تناول كل هذه الكتابات وتتبع ميراث هذه الظاهرة في مختلف البلاد العربية؛ نظرًا لكبر حجمها، وتعدد الكتب التي صدرت في خدمة هذا الاتجاه، وأيضًا طول الفترة الزمنية؛ إذ نجد لهذه الظاهرة امتدادات حتى في القرن الواحد والعشرين. من هنا سنقصر معالجتنا في هذا المقال على تتبع الأدبيات التاريخية لهذه الظاهرة في مصر.

من الكتب الأساسية والمؤسسة لهذه الظاهرة الكتاب الذي أصدره السياسي المصري الشهير محمد فريد في مطلع القرن العشرين، وهو كتاب “تاريخ الدولة العلية العثمانية”، وتعود الخلفية التاريخية لهذا الكتاب إلى فترة ضعف الدولة العثمانية، وعجزها حتى عن حماية أهم ولاياتها، وهي مصر التي سقطت في يد الاحتلال الإنجليزي منذ عام (1882). كما يصاحب صدور الكتاب تبني السلطان عبد الحميد الثاني لمشروع “الجامعة الإسلامية”، والمقصود بها تجمع كل مسلمي العالم تحت لواء الدولة العثمانية، وسلطانها عبد الحميد الثاني. كما يصاحب صدور الكتاب فترة تحالف الخديو عباس حلمي الثاني – خديو مصر آنذاك- مع السلطان عبد الحميد الثاني نكايةً في الاحتلال الإنجليزي. وفي تلك الفترة نشهد السياسة الإسلامية للحزب الوطني في مصر، ودعايته لعودة مصر للدولة العثمانية كوسيلة لمقاومة الاحتلال الإنجليزي.

كانت هذه هي الخلفية التاريخية وراء صدور كتاب محمد فريد “تاريخ الدولة العلية” أي: الدولة العثمانية. وفي حقيقة الأمر لم يكن هذا الكتاب عملًا علميًّا تاريخيًّا بقدر ما كان جزءًا من حملة الدعاية لمشروع عبد الحميد الثاني في محاولة تكريس مفهوم الخلافة للدولة العثمانية، وجعلها جامعةً تجمع كل المسلمين، وليس فقط رعايا الدولة العثمانية. ويتضح ذلك جليًّا من مقدمة الكتاب نفسه؛ إذ يُهدِي محمد فريد كتابه إلى السلطان بقوله: “وقد قصدت بهذه الخدمة -إصداره الكتاب- أن أقوم بفرض يجب على كل إنسان أداؤه لعرش الخلافة العظمى وملجأ الإسلام في هذا الزمن؛ مولانا أمير المؤمنين السلطان الغازي عبد الحميد الثاني، أمد الله في عمره وأيده بنصره”. هكذا يتبين لنا منذ بداية مطالعتنا للكتاب مدى الانحياز وغلبة العامل الأيديولوجي وراء هذا الكتاب.

ثم يبدأ محمد فريد تاريخه للدولة العثمانية على أنها امتداد لتاريخ الخلافة الإسلامية منذ عصر الخلفاء الراشدين، ويرى أن الخلافة في الإسلام فرعان: فرع الخلافة العربية، ثم مع صعود الدولة العثمانية يأتي “فرع الخلافة التركية”. وهنا يتجاهل محمد فريد التاريخ الطويل لمسيرة الخلافة، ويتجاهل القواعد الفقهية التي سارت عليها الخلافة، وقصرها على العنصر العربي ومبدأها بالشورى، فأي مسوِّغ فكري وفقهي يسمح بتجاوز هذه القاعدة، وأن تؤول الخلافة لآل عثمان؟!

أسس محمد فريد في كتابه لصناعة تاريخ مقدس للدولة العثمانية، وأن هؤلاء هم من أرسلهم الله سبحانه وتعالى لإنقاذ الأمة الإسلامية بعد حالة الضعف التي دخلت فيها: “لكن العناية الصمدانية تداركتهم بلمِّ الشعث ورمّ الرث ورتق الفتق ورقع الخرق، فأضاءت الأفق الإسلامي بظهور النور العثماني، وأمدته بالنصر اللدني، والعون الرباني، فقامت الدولة العلية بحياطة هذا الدين، وحماية الشرقيين، ودعت إلى الخير، وأمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر، فكانت من المفلحين”.

هكذا أسس محمد فريد لمدرسة أتت من بعده، مدرسة تنتشر للأسف في الكثير من البلدان العربية، وتظهر بشكل واضح في أوقات ضعف المنطقة العربية والإسلامية، تنظر إلى الدولة العثمانية على أنها الفردوس المفقود الذي ينبغي عودته من جديد، لاستعادة مجد الإسلام.

ولقد عمل أنصار التيار القومي المصري على الوقوف أمام كتابة تاريخ مقدس للدولة العثمانية، بل نظروا إلى تأثير الفترة العثمانية التي عاشتها مصر على أنها فترة مظلمة. ومن أهم هذه الكتابات كتاب حسين فوزي “سندباد مصري”، وهو رحلة في تاريخ مصر، والأمر الجدير بالملاحظة هنا أن فوزي بدأ كتابه بما أطلق عليه “الجمعة الحزينة”، والمقصود بها يوم الجمعة الذي قُرِئت فيه خطبة الجمعة وتم فيها الدعاء للسلطان سليم الأول بعد غزوه القاهرة في عام (1517). ويرى حسين فوزي أن هذا اليوم هو أسوأ يوم في تاريخ مصر؛ لأن مصر فقدت هيبتها واستقلالها، وأصبحت مجرد ولاية عثمانية، حيث دخلت في عصور الظلام.

لكن الأمور سرعان ما تتبدل وتعود ظاهرة صناعة التاريخ المقدس للدولة العثمانية مرة أخرى، وأتى ذلك مصاحبًا لفترة من أشد فترات الضعف والانكسار التي شهدتها مصر والمنطقة العربية، وأقصد بذلك فترة هزيمة 5 يونيو (1967)؛ إذ لم تنحصر آثار هذه الهزيمة المروعة على الجانب العسكري فحسب، بل امتدت لتشمل حالة عامة من فقدان الثقة في فكرة القومية العربية التي سادت المرحلة السابقة على الحرب، وعاد التيار الإسلامي ليطل برأسه من جديد تحت ادعاء أن العرب هُزِموا لأنهم ابتعدوا عن دينهم، بينما انتصر “اليهود” لأنهم يحاربون بعقيدة دينية، وبالقطع كان ذلك استخفافًا بالأسباب الحقيقية وراء هزيمة يونيو 67، ودعاية دينية واضحة ساعدت على عودة تيار الإسلام السياسي من جديد.

في ظل هذه الأجواء خرج علينا كتاب جديد، يرتبط بصلة رحم أيديولوجي مع كتاب محمد فريد السابق الإشارة إليه؛ إذ أصدر عبد العزيز الشناوي كتابه الشهير “الدولة العثمانية: دولة إسلامية مُفترًى عليها”. ومن البداية ومنذ عنوان الكتاب يحدد الشناوي موقعه وهدفه من قراءة التاريخ العثماني كتاريخ “دولة إسلامية مُفترًى عليها”. ويرفض الشناوي كتابات المؤرخين الأوروبيين عن الدولة العثمانية، ويرى أن هذه الكتابات صورت السلطان العثماني على أنه: “السلطان المسلم الجاهل المتبربر المستغرق في ملذاته مع حورياته الفاتنات”، ويرى أن “وصف الدولة العثمانية بأنها دولة إسلامية مُفترًى عليها هو أصدق قيلًا من أي وصف آخر”.

ولا يكتفي الشناوي في دفاعه عن الدولة العثمانية بالاشتباك مع المستشرقين فحسب، بل يشتبك أيضًا مع التيار القومي العربي الذي أخذ موقفًا حادًّا من تاريخ الدولة العثمانية؛ إذ يرى الشناوي أنه: “قد ردد بعض المؤرخين والباحثين العرب عن جهالة أو تجاهل أو حقد تلك الآراء الخاطئة والظالمة معًا في مؤلفاتهم”.

هكذا يأتي كتاب الشناوي إعادة قراءة لتاريخ الدولة العثمانية في ضوء التطورات وحركة مد التيار السياسي الإسلامي التي شهدتها مصر والمنطقة العربية بعد هزيمة يونيو 67. وكانت صناعة تاريخ مقدس للدولة العثمانية هي بمثابة اختراع أندلس جديدة “الفردوس المفقود”.

  1. حسين فوزي، سندباد مصري: جولات في رحاب التاريخ، ط3 (القاهرة: دار المعارف، د.ت).

 

  1. عبد العزيز الشناوي، الدولة العثمانية دولة إسلامية مُفترًى عليها، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1980).

 

  1. محمد فريد بك، تاريخ الدولة العلية العثمانية، ط2 (القاهرة: مطبعة محمد أفندي مصطفى، 1896).

 

  1. محمد عفيفي، “حدود الدين وحدود الدولة: قراءة في تطور مفهوم الدارين بين الخلافة والسلطنة العثمانية”، مجلة التفاهم، مسقط (2011).

 

  1. محمد عفيفي، عرب وعثمانيون: رؤى مغايرة، طـ2 (القاهرة: دار الشروق، 2008).