الادِّعاء العثماني المزيَّف

في دعم التعليم في الجزيرة العربية

يقف القارئ مندهشًا من بعض الطروحات الفكرية التي تبَنَّاها بعض المؤرخين ممن ادَّعى العروبة، وطفق يدافع دفاعًا مستميتًا عن الدولة العثمانية والحياة الثقافية فيها، والتطور المزعوم الذي مرَت به خلال المراحل التاريخية للدولة، بدءًا باللغات في البلاد العثمانية ومراحل تطورها، وصولًا إلى مصطلح اللغة العثمانية الجديدة في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، وانتهاءً بتغيير الحروف العربية إلى اللاتينية.

تحدَّثنا عن الكتابات السياسية العثمانية والكتابة التاريخية، والرحلات العثمانية والأدب العثماني، وأدوات نشر الثقافة والمعرفة في البلاد العثمانية، ومنها المدارس والتكايا، والطباعة، والنشر، وخلافه، وكل ما ذكره المؤرخ جرَّاء الرد على التهمة التي وُجِّهت للدولة العثمانية بالجمود الفكري الذي أصاب معظم الولايات العثمانية، واتهم العرب أو “القوميون العرب” بتبنِّي هذا الطرح، الذين استقَوه من المستشرقين على حد زعمهم! فكأن القارئ يرى أن الولايات العربية كانت بالفعل تشهد عصرًا من الازدهار الفكري والتطور في المناحي الثقافية، وهو أمر مخالِف للحقيقة والواقع الذي عاشته المنطقة العربية، وعلى وجه الخصوص الجزيرة العربية، من تجهيل متعمَّد، ونشر للطرق الصوفية المنحرفة وخزعبلاتها الغريبة في بعض أنحائها، التي جعلت من الفرد تابعًا ومنفِّذًا لأوامر شيخه ومولاه دون تبصُّر ورَوِيَّة.

ورغم العزلة الثقافية والعلمية التي عاشتها المنطقة العربية، وتَرَدِّي الأحوال الاجتماعية، التعليمية، والدينية، نجحت الدولة السعودية الأولى في الجزيرة العربية في التصحيح العقدي بعد التشويه العثماني له، ودعم العلم والثقافة خلال القرن الثامن عشر الميلادي، بقيادة الإمام محمد بن سعود لمحاربة الجهل ونشر النور والثقافة العربية الإسلامية بعيدًا عن التأثيرات العثمانية المنحرفة.

وقد نجح السعوديون في إنقاذ الجزيرة العربية من تلك البدع والانحرافات الدخيلة على المجتمع العربي، وانتشر صداها من قلب الجزيرة العربية في عدد من البلدان العربية، وتأثرت بها قيادات سياسية ودينية في شمال وغرب أفريقيا، مما أشعر السلطان العثماني بخطورة ذلك الفكر السعودي على كيانه وعرشه، وعلى ما اعتادت عليه الدولة العثمانية من الانحرافات الفكرية والعقدية، فأمر السلطان العثماني ولاته في العراق والشام بالقضاء على الدولة السعودية الأولى، ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك.

الدولة السعودية الأولى في سنوات قليلة قامت بما لم يستطع المحتلُّ العثماني فِعله خلال قرون في الجزيرة العربية.

بعد اتساع نطاق الدولة السعودية العربية الأصيلة وانتشار فكرها بين الناس؛ كلَّف السلطان العثماني مرة أخرى واليه على مصر للقضاء عليها والحد من انتشار فكرها المتجدد، وبعد سنوات عديدة تمكَّن من تدمير الصرح العربي في جزيرتهم، ولكنه فشل في إخماد جذوة الفكر المتجدد في نفوسهم رغم الصعاب والمِحَن التي واجهوها من الحملات العثمانية الغاشمة والظالمة.      

ولو ألقينا نظرة سريعة على ما خلّفه العثمانيون من إرث تعليمي في الجزيرة العربية، الذي تمثَّل ببناء بعض المدارس الحكومية الابتدائية والرشدية في الحجاز والأحساء على استحياء، الذي أوجبت فيه الحكومة العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي نظام إنشاء مدرسة ابتدائية في كل مدينة وقرية يدرس فيها القرآن الكريم والتجويد والقراءة ومختصر التاريخ العثماني، وغيرها من مواد دراسية، وعن ذلك يذكر عبد العزيز عوض في كتابه “الإدارة العثمانية في سوريا”: “إلزامية التعليم الابتدائي لم تكن سوى حبر على ورق، وأنها مجرد نظام اقتباس من الأنظمة الغربية دون دراسة لإمكانيات الدولة المالية التي عجزت عن افتتاح المدارس في المدن فضلًا عن القرى”. 

فتلك المدارس المشار إليها لم تكن سوى مكاتيب الصبيان المنتشرة في الحجاز والأحساء، وهي لم تكن تحت إشراف الدولة العثمانية أو من إنشائها، فهي من الأعمال الخيرية للأثرياء والمُحسِنين، والسالنامات العثمانية المختلفة ذكرتها ضمن عملية الإحصاء لها عن كل ولاية، وهي ليست من أعمال الحكومة العثمانية.

وأما بالنسبة للمدارس الرشدية – أي المتوسطة – إضافة إلى الإعدادية فقد أنشئ بعضها بشكل محدود في ولاية الحجاز ومتصرفية الأحساء، وقد واجهت عدم قبول من الأهالي؛ لعدم ثقتهم بتلك المناهج، ولاعتمادها على التعليم باللغة التركية، وهو ما نفَّر العرب من تلك المدارس، فالدولة العثمانية لم تكن حريصة على تعليم العرب والرقي بهم بما يتماشى مع ظروف ذلك العصر، مع ما أبْدَوه من محاولات غير جادة في ذلك.

  1. أكمل الدين إحسان أوغلي، الدولة العثمانية.. تاريخ وحضارة، ترجمة: صالح سعداوي (إسطنبول: مركز الأبحاث للتاريخ والفنن والثقافة الإسلامية، 1999).

 

  1. عبد الرحيم بنحادة، العثمانيون المؤسسات والاقتصاد والثقافة (الدار البيضاء: اتصالات سبو، 2008).

 

  1. عبد العزيز عوض، الإدارة العثمانية في سوريا 1864-1914 (القاهرة: دار المعارف، 1969).

 

  1. عبد الله السبيعي، الحكم والإدارة في الأحساء والقطيف وقطر أثناء الحكم العثماني الثاني 1288-1331ه/1871-1913 (الرياض: د.ن، 1999).

 

  1. علي محافظة، حركات الإصلاح والتجديد في الوطن العربي والتحديات التي تواجهه (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2011).

 

  1. وليم أوكسنولد، الدين والمجتمع والدولة في جزيرة العرب الحجاز تحت الحكم العثماني، ترجمة: عبد الرحمن سعد العرابي (جدة: مركز النشر العلمي بجامعة الملك عبد العزيز، 2016).