"الدولة السعودية الأولى بين التشويه والبهتان العظيم"
يذخر الأرشيف التركي بإستنبول باحتوائه على ملايين الوثائق التاريخية والمراسلات والأضابير الرسمية لمعاملات الدولة العثمانية في مراحلها المختلفة، والتي بالفعل تشكِّل مخزونًا تاريخيًّا ومعرفيًّا مهمًّا جدًّا لمعظم الولايات التي خضعت للسلطة العثمانية في مختلف قارات العالم. وبمجملها أتاحت للمؤرخ والباحث في الشأن التاريخي والسياسي الانغماس في ذلك الأرشيف للكشف عن أسراره الدفينة. ومن خلال ترددي على الأرشيف التركي قبل عدة سنوات مضت وقفتُ على الكثير من التقارير والمراسلات السياسية المتنوعة، ومنها ما كان يخص ولاة بغداد في القرن الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، والمرسلة بدورها إلى السلطان العثماني أو إلى الصدارة العظمى في الأستانة، وذلك في فترة تاريخية مبكرة من التطورات السياسية التي كانت تشهدها الجزيرة العربية من قيام الدولة السعودية ونشاطها وانطلاقتها نحو تأسيس وتوحيد شبه الجزيرة العربية في كيان سياسي كبير غيّر مجرى تاريخ المنطقة العربية، فكانت تلك التقارير والمراسلات تتابع تلك التطورات والأحداث الدائرة بكل دقة وتنقل أخبارها أولًا بأول، ولا شك أنها لم تكن المصدر الوحيد في نقل مثل تلك الأخبار، فهناك جهات أخرى كانت تتابع وترسل من جهتها أيضًا.
ولكن الذي يهمنا هنا ما كان يرسل ويصدر من ولاية بغداد خلال فترة حكم المماليك “الكوله مند” وما تحمله في طياتها تلك الرسائل والتقارير من تشويه للدولة السعودية الأولى وعقيدتها الإسلامية من السب والشتم والقذع لقادة الدولة السعودية ووصمهم بالمبتدعة، والخوارج، والملاعين، والأشقياء، بصورة ممنهجة ومتعمدة بهدف التأثير على المتلقي، وبأن السعوديين قد أحدثوا مذهبًا جديدًا خالفوا فيه بقية المسلمين، وأنهم خرجوا على الدولة العثمانية، إلى غير ذلك من المصطلحات والألفاظ التي تنمُّ عن حقد مبطَّن ضد الدولة السعودية الأولى وفكرها السياسي المنطلق أساسًا من العقيدة الإسلامية الصافية ومن الأرومة العربية النقية.
ولقرب ولاية بغداد جغرافيًّا من تلك المستجدات في الجزيرة العربية، وصلت الأمور فيها إلى حد الاشتباكات العسكرية بين الطرفين، فكانت أولى الحملات التي شُنَّت على الدولة السعودية انطلقت من ولاية بغداد المملوكية بتوجيه من السلطان العثماني سنة 1797م، وحملة أخرى سنة 1799م، فقد أدرك الولاة المماليك ما كانت تشكِّله الدولة السعودية العربية من خطر جسيم على نظام حكمهم السياسي الدخيل على الجسم العربي في العراق. لذا تجد أن معظم تقاريرهم ومراسلاتهم مجيّشة ومحرِّضة ضد السعوديين، إضافة إلى قيامهم باحتواء كل معارض للدولة السعودية حتى أصبحت ولاية بغداد ملجأً لأولئك المعارضين. فبالنظر لبعض الوثائق العثمانية الرسمية وردود السلطان أو الصدر الأعظم عليها سيُكتَشف أنها إنما كُتِبت بما كان يجول في فكر أولئك الولاة المماليك، أو على أقل تقدير من أملى عليهم مثل ذلك التجني الواضح على الدولة السعودية بهدف تشويهها المتعمد بوصف القادة السعوديين بالخوارج والملاعين وغيرها من الاتهامات الباطلة.
حتى أصبح هذا الأسلوب معتادًا عليه في كتابة التقارير والرسائل عند الحديث عن السعوديين بوصمهم بالخوارج، والمبتدعة، والوهابية، وهم بذلك روَّجوا لهذه المصطلحات بالتلبيس على الخاص والعام، ومن ناحية أخرى تكريس المفاهيم التاريخية المغلوطة ضد السعوديين. والحقيقة أنه لم يقف أولئك الولاة عند هذا الحد، بل كانت تهمة “الوهابية” تُلقى منهم جزافًا على كل من يخالفهم الرأي أو يعارضهم من الناحية السياسية، فتكون التهمة جاهزة لتُلقَى عليه فتُودِي به في بعض الأحيان إلى القتل شنقًا، مثلما فعل الوالي علي باشا والي بغداد في اثنين من الزعماء العرب المبرزين.
وإنه لمن الظلم الواضح أن تُتَّهَم الدولة السعودية ودعوتها الإصلاحية بمثل ذلك البهتان العظيم؛ بأن تُنسَب لإحدى الفِرَق الخارجية الضالة في القرن الثاني الهجري، التي أنشأها عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن رستم الخارجي الإباضيّ في شمال إفريقيا، ونسبت إليه تلك الفرقة الضالة بالوهابية، والذي كان قد عطّل الشرائع الإسلامية، وألغى الحج، وغيرها من المعتقدات والضلالات. وهي بعيدة كل البُعد عن مذهب أهل السنة والجماعة وما نهجته الدولة السعودية الأولى والدعوة الإصلاحية، التي لم تخرج عن مذهب أهل السنة والجماعة، وذلك باتباعها الدليل الصحيح من الكتاب والسنة، وانتهاجها منهج السلف الصالح، فإسقاط شخصيات منحرفة عقديًّا وفكريًّا وإلصاقها بالسعوديين وعلى دعوتهم الإصلاحية، هو نوع من الظلم والبهتان بحق دولة عربية إسلامية رفعت راية التغيير والدعوة للعودة إلى منابع الإسلام الأصيلة بعيدًا عما أحدثه المتأخرون من بِدَع وضلالات لا تمتُّ لمنهج سلف هذه الأمة بصلة.