الحملة الفرنسية على مصر

أول غزو للشرق الأوسط

لا يزال الباحثون في حالة مراجعة مستمرة لتاريخ الدولة العثمانية، وطبيعة الأثر الذي تركَته السياسات العثمانية على تاريخ ولاياتها، وفي القلب منها الولايات العربية، ومن النقاط المثيرة التي أشار إليها البعض مسألة الفشل الدبلوماسي للدولة العثمانية في تعامُلها مع الغرب الأوروبي، ومدى تأثير ذلك في تزايُد النفوذ الأوروبي في ولايات الدولة العثمانية، لا سيما الولايات العربية، هذا النفوذ الذي سيتفاقم بعد ذلك ليأخذ شكل الاحتلال المباشر كما سنرى.

وتعدُّ العلاقات العثمانية-الفرنسية خير دليل على المقولة السابقة، وتبدأ فصول ذلك من خلال المعاهدة الغريبة التي أبرَمها السلطان سليمان القانوني مع ملك فرنسا، هذه المعاهدة التي كانت البداية لما عُرِف بعد ذلك بالامتيازات الأجنبية، ومن المعروف أن هذه الامتيازات أعطت رعايا فرنسا -وبعد ذلك رعايا العديد من الدول الأوروبية الأخرى- الكثير من المزايا القانونية والاقتصادية، مما انعكس بالسلب على أوضاع السكان المحليِّين في الولايات العثمانية، لا سيما الولايات العربية، وأضعَفَ إلى حد كبير نموَّ البرجوازية العربية لفترة طويلة.

ويرى البعض أن الدولة العثمانية تنازلت كثيرًا في منح هذه الامتيازات لفرنسا، ويحاول هؤلاء تبرير هذا الفعل بأن الدولة العثمانية أرادت أن تضمن إلى جانبها حليفًا أوروبيًّا مثل فرنسا، وفي حقيقة الأمر فإن الدولة العثمانية هي التي ضمنت حماية فرنسا من هجمات ملك النمسا، وبالتالي لم يكن هناك حاجة لتنازُل من جانب الدولة العثمانية لصالح فرنسا.

ويحاول البعض تبرير مسألة الامتيازات الأجنبية من خلال رغبة الدولة العثمانية في تنمية أحوال فرنسا اقتصاديًّا لكي تكون حليفًا أوروبيًّا قويًّا بجانبها، لكننا سنرى بعد ذلك عدم مصداقية هذا الرأي، بل كيف استهانت فرنسا نفسها بالدولة العثمانية، وكيف تجرَّأ هذا الحليف على احتلال ولاية من أهم ولايات الدولة العثمانية وأغناها وهي مصر.

منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر أدركت فرنسا مدى ضعف الدولة العثمانية، وعدم قدرتها على حُكم ولاياتها، لا سيما الولايات العربية، وعلى رأسها مصر، من هنا سيبدأ الحلم الفرنسي في تكوين إمبراطورية شرقية فرنسية تكون قاعدتها مصر، وسيتجلَّى هذا الحلم كحقيقة على يد القائد الفرنسي الشهير بونابرت -الذي سيُعرَف باسم نابليون فيما بعد- وبالفعل تصل حملة نابليون إلى مصر في عام 1798، وتستطيع احتلالها بسهولة، نتيجة سوء نظام الحكم العثماني في مصر وضعف أدواته.

والمثير أن فرنسا ستتحجج في مسألة احتلالها مصر بأمر يتعلق بالامتيازات الأجنبية الممنوحة لها في مصر؛ إذ سيصرِّح نابليون أنه جاء إلى مصر من أجل تأديب الأمراء المماليك لتعسُّفهم مع التجار الفرنسيين، وعدم احترامهم للامتيازات الأجنبية الممنوحة لفرنسا! بينما يعلم الجميع أن غرض فرنسا -الحليف السابق للدولة العثمانية- هو إقامة إمبراطورية شرقية فرنسية تكون قاعدتها مصر، ومن أجل تأكيد ذلك سيبدأ علماء الحملة الفرنسية دراساتهم من أجل شق قناة بين البحرين المتوسط والأحمر، هذا المشروع الذي سينتُج عنه بعد ذلك قناة السويس، من خلال امتياز فرنسي أيضًا.

هكذا وصلت العلاقة بين الحليفين السابقين، الدولة العثمانية وفرنسا، وهكذا أدَّت الامتيازات الأجنبية إلى تجرُؤ فرنسا باحتلال أهم ولاية عثمانية وهي مصر، بل ومحاولة شق قناة دون الالتفات إلى الدولة العثمانية نفسها.

ويبدو أن الدولة العثمانية قد أدمنَت الفشل في دبلوماسيتها؛ إذ لم تكتفِ بالفشل السابق مع فرنسا، وإنما ستلجأ إلى قوة أوروبية كبرى هي إنجلترا؛ لمساعدتها في إخراج الفرنسيين من مصر، وستنجح إنجلترا في إخراج الحملة الفرنسية من مصر، لكن ذلك سيكون بداية لأطماع إنجلترا في مصر، هذه الأطماع التي ستظهر بعد ذلك في حملة فريزر الإنجليزية على مصر في عام 1807، وستصل في النهاية إلى هدفها بالاحتلال الإنجليزي لمصر في عام 1882، هذا الاحتلال الذي سيستمر للأسف الشديد حتى عام 1954.

هكذا يتَّضح لنا الفشل المزمن للدبلوماسية العثمانية مع القوى الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا، منذ القرن السادس عشر، هذا الفشل الذي سيشجع فرنسا على احتلال مصر في عام 1798، وسيؤدي تحالف الدولة العثمانية مع إنجلترا لإخراج فرنسا من مصر إلى التمهيد لاحتلال إنجلترا لمصر عام 1882.