حصل الألمان على امتيازات أشعلت التنافس الأجنبي

التحالف العسكري للألمان مع الدولة العثمانية أضرَّ بالمنطقة العربية

تعتبر مسألة الامتيازات الأجنبية من أخطر عوامل ضعف الدولة العثمانية، نظرًا للأثر السيئ للامتيازات في بنية الاقتصاد والمجتمع، وانعكاس ذلك على الولايات العثمانية، وفي مقدمتها الولايات العربية، التي تأثرت بشدة بهذا الأمر.

بدأت حُمى الامتيازات الأجنبية مبكرًا في تاريخ الدولة العثمانية، منذ القرن السادس عشر، وبصفة خاصة مع الاتفاقية التي أبرمها السلطان سليمان القانوني مع فرنسا، تحت دعوى المساعدة في تنمية فرنسا وتقويتها لتكون حليفًا أساسيًّا للدولة العثمانية في غرب أوروبا، وبعدما انتشرت حمى الامتيازات الأجنبية لتشمل العديد من الدول الأوروبية، خاصةً مع دخول الدولة العثمانية مرحلة الضعف، وتحوُّلها إلى “رجل أوروبا المريض”، ويكفي أن نذكر هنا تجرؤ فرنسا -حليفة الدولة العثمانية، وأول من استفاد من الامتيازات الأجنبية- على احتلال مصر عام (1798)، ثم احتلال الجزائر (1830)، وهما من أهم ولايات الدولة العثمانية، كما استفادت إنجلترا من عقد الامتيازات الأجنبية مع الدولة العثمانية، ومع ذلك تجرأت الأولى، وقامت باحتلال مصر عام (1882).

وجاءت ألمانيا في مؤخرة الدول الأوروبية التي استفادت من نظام الامتيازات الأجنبية؛ نظرًا لتأخر حدوث الوحدة الألمانية، وظهور الإمبراطورية الألمانية كقوة كبرى على الساحة الأوروبية والدولية؛ إذ بدأ التغلغل الألماني في الدولة العثمانية منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، وفي حقيقة الأمر رحبت الدولة العثمانية بشدة بمسألة التقارب مع ألمانيا، وعقد العديد من الامتيازات معها، وكانت حجة الدولة العثمانية في ذلك أن ألمانيا لم يُعرَف عنها تاريخ استعماري في المنطقة، ولم تقم باحتلال بعض الولايات العثمانية، مثلما فعلت إنجلترا وفرنسا، وللأسف لم تدرك الدولة العثمانية أن اهتمام ألمانيا بالمنطقة يرجع إلى التنافس الاستعماري بين ألمانيا والدول الاستعمارية الكبرى، مثل إنجلترا وفرنسا وروسيا، ويؤكد ذلك مدى فشل الدبلوماسية العثمانية، وعدم قدرتها على قراءة الأوضاع الدولية، في ظل التنافس الأوروبي على مناطق النفوذ في آسيا وأفريقيا.

ويعتبر منح ألمانيا امتيازات مهمة فيما يتعلق بخطوط المواصلات داخل الدولة العثمانية، لا سيما الولايات العربية، من أهم وأخطر الأمور؛ نظرًا لانعكاس ذلك على المنطقة العربية، وفتح المجال للمزيد من تغلغل النفوذ الأوروبي، والتنافس الاستعماري على المنطقة؛ إذ ترتب على زيارة الإمبراطور الألماني ويليام الثاني للدولة العثمانية في عام (1898) منح ألمانيا امتيازًا جديدًا لإنشاء خط سكة حديد برلين-بغداد بتمويل من البنك الألماني، ثم طُرحت بعد ذلك فكرة امتداد هذا الخط من بغداد إلى البصرة، لكي يصل إلى رأس الخليج العربي، وبذلك تمتد يد ألمانيا إلى هذه المنطقة الإستراتيجية ذات الطابع الخاص.

وأثار هذا المشروع غضب إنجلترا، التي نظرت إلى هذا الخط على أنه تغلغل ألماني في المنطقة التي تعتبرها إنجلترا ذات أهمية خاصة لها؛ إذ إنها أحد الممرات الأساسية إلى الهند؛ أكبر مستعمرات إنجلترا في آسيا.

كما أن دخول ألمانيا إلى المنطقة عرقل الخطط المستقبلية لإنجلترا في السيطرة على المشرق العربي، خاصةً بعد احتلال بريطانيا لمصر عام (1882)، من هنا شهدت المنطقة منذ ذلك الوقت صراعًا مريرًا بين القوى الاستعمارية، وهو ما ظهر جليًّا أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918).

ومن النقاط المثيرة في موضوع الامتيازات الأجنبية التي منحتها الدولة العثمانية لألمانيا، ومدى تأثير ذلك على المنطقة العربية، مسألة مدى ارتباط ذلك بالمشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين. ويضرب البعض مثالاً على ذلك بمسألة تأسيس المستعمرة الشهيرة “بتاح تكفا” في فلسطين، والملابسات التي دارت حول ذلك الأمر؛ إذ قرَّر الصهيوني بتاح تكفا المشمول بالجنسية الألمانية بناء مستعمرة دون أخذ الإذن القانوني، واعترض عرب المنطقة على ذلك الأمر، كما اعترض والي القدس، وطالب بإزالة المستعمرة، وعندئذٍ قدم القنصل الألماني في القدس احتجاجًا إلى السلطات المحلية في فلسطين، وعندما لم يفلح القنصل الألماني في تمرير الأمور مع السلطات المحلية، قام برفع المسألة إلى السفير الألماني في إسطنبول، التي نجحت عام (1883) بتمرير الأمر استنادًا إلى مسألة الامتيازات الأجنبية، حيث وافقت إسطنبول على مشروعية بناء المستعمرة.

ومن النقاط الأخرى المثيرة، والتي انعكس أثرها السيئ على المنطقة العربية، مسألة تغلغل نفوذ الجيش الألماني داخل الجيش العثماني؛ حيث حصلت ألمانيا على امتياز تطوير الجيش العثماني من خلال إرسال البعثات العسكرية الألمانية لتدريب الجيش العثماني، هذا فضلاً عن امتياز إمداد الجيش العثماني بالأسلحة اللازمة من خلال مصانع التسليح الألمانية، وأدَّى ذلك إلى ازدياد شعبية النموذج العسكري الألماني داخل صفوف الضباط والقادة العثمانيين، وأدَّت البعثات دورها الناجح في جر الدولة العثمانية إلى التحالف مع ألمانيا في الحرب العالمية الأولى ضد الحلفاء، وعلى رأسهم إنجلترا وفرنسا.

وانعكس هذا التحالف العسكري العثماني-الألماني بالأثر السيئ على مستقبل المنطقة العربية؛ إذ أصبحت منطقة المشرق العربي ميدانًا عسكريًّا للصراع الاستعماري أثناء الحرب العالمية الأولى، ونتج عن ذلك سقوط المشرق العربي – خاصةً العراق وبلاد الشام- في يد إنجلترا وفرنسا، بعد هزيمة الدولة العثمانية وألمانيا في الحرب.

ربط العثمانيون مصيرهم بالألمان وكان سقوط الألمان سقوطًا لهم في الحرب العالمية الأولى.

  1. قيس العزاوي، الدولة العثمانية.. قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، طـ 5 (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2003).

 

  1. سحر أحمد، “النفوذ الألماني في الدولة العثمانية أواخر القرن التاسع عشر”، من بحوث في المؤتمر العلمي لكلية التربية بالجامعة المستنصرية، العراق، د.ت.

 

  1. سهام هنداوي، التطور التاريخي للعلاقات الألمانية العثمانية.. وثائق سرية 1876- 1909 (دمشق: دار نينوى، 2015).