الحجّ الغائب
عن عرض السلاطين العثمانيين
تُظهر أحداث عهد السلطان عثمان الثاني بوضوحٍ كيف تحوّل الدِّين، في لحظاتٍ حرجة من تاريخ الدولة العثمانية، إلى أداةٍ لتبرير صراعٍ سياسيٍّ عميق، لا إلى باعثٍ روحيٍّ خالص. فقد أورد محمد فريد بك في كتابه تاريخ الدولة العلية العثمانية أن السلطان الشاب، وهو في الثامنة عشرة من عمره، قرر عقد النيّة على أداء فريضة الحج في وقتٍ كانت فيه سلطنته تمرّ باضطرابٍ شديد، وتعيش تحت هيمنة الإنكشارية وتمردهم المتصاعد. ولم يكن هذا القرار، في سياقه التاريخي، معزولًا عن واقعٍ سياسيٍّ محتقن، ولا عن صراعٍ مكتوم بين سلطانٍ يسعى إلى إعادة تشكيل الدولة، وقوةٍ عسكرية أدمنت التحكم في القرار والامتياز.
ويُطرح هنا سؤالٌ جوهري: هل كان قرار الحج مبادرةً روحيةً خالصة من السلطان، مخالِفةً لتقاليد من سبقوه، أم اقتراحًا ذا خلفية سياسية أُريد له أن يُتَّخذ غطاءً شرعيًا لتحركاتٍ أعمق؟. فمن المعلوم أن السلطان سليم الأول، أول من احتلَّ الحرمين الشريفين، وكان قد أصدر مرسومًا يقضي بعدم حجّ السلاطين، مبررًا ذلك بما يترتب على مواكبهم من مشقةٍ على الناس، وبما قد تسببه رحلة الحج الطويلة من فراغٍ سياسي واضطرابٍ أمني في دولة مترامية الأطراف. وقد تحوّل هذا التوجّه، مع الزمن، إلى قاعدةٍ فقهية سياسية استُدعيت كلما دعت الحاجة.
ومع تسرّب نيات السلطان عثمان الثاني بشأن إصلاح الجيش، وتأسيس جيشٍ جديد يحدّ من نفوذ الإنكشارية، وصلت إليهم أخبار عزمه على الحج، فاستُخدم القرار ذريعةً لتأجيج المعارضة. ولم يكن اعتراضهم، في حقيقته، خوفًا على السلطان أو على استقرار الدولة، بقدر ما كان خوفًا على مواقعهم، وامتيازاتهم، ومستقبلهم في ظل مشروعٍ إصلاحيٍّ يهدد وجودهم. فاستند الإنكشارية في موقفهم إلى فتوى قديمة نُسبت إلى عهد السلطان سليم الأول، تنصّ على “عدم لزوم حجّ السلاطين لما يترتب على غيابهم من فتن واضطرابات”. وهنا يتجلّى بوضوح كيف تُستدعى الفتوى من سياقها التاريخي لتؤدي وظيفة سياسية آنية، وتُمنح صفة الإلزام الشرعي وهي في حقيقتها أداة صراع على السلطة.
لم يتراجع السلطان عن قراره، فكان ذلك ناقوس الخطر الحقيقي. فتجمّعت الإنكشارية أمام القصر السلطاني، لا بدافع النصيحة أو الحرص، بل دفاعًا عن مصالحهم المهددة، خصوصًا بعد أن قلّص السلطان المخصصات المالية، لا للإنكشارية وحدهم، بل للمفتي وبعض كبار رجال الدولة، في إشارة واضحة إلى توجهه لكسر شبكة المصالح المتحالفة ضد السلطة المركزية. وكانت هذه الإجراءات، في نظرهم، مقدمةً لعزلٍ وتولية، ومحاسبةٍ لا عهد لهم بها.
قراءة تاريخية في الفتوى، الحكم، وتوظيف الدين في الدولة العثمانية.
ويشير محمد فريد بك إلى أن تمكّن الإنكشارية من مفاصل الدولة بلغ حدًّا جعله يعجز عن استكمال وصف فظائعهم، مكتفيًا بالتذكير بأن الشريعة توجب طاعة ولي الأمر، فكيف بقتله؟ لا سيما وأن السلطان، على صغر سنه، حقق للدولة انتصارات بعد فترة من الجمود. ويكتفي المؤرخ بذكر أسماء من شهدوا الواقعة، مشيرًا إلى أن كل من عارض أو أبدى تعاطفًا مع السلطان لقي المصير ذاته، وهو ما أدى طبيعيًا إلى انهيار هيبة الدولة، وانتقال القرار الفعلي إلى أيدي الإنكشارية المتمردين. غير أن اللافت في طرح فريد بك – على كثافة عاطفته تجاه الحادثة – غيابه عن التعليق على أصل مسألة الحج نفسها. وهو صمتٌ يثير التساؤل، خصوصًا مع علمه الدقيق بتاريخ سلاطين الدولة. فلو أن أحدًا من سلاطين آل عثمان أدى فريضة الحج فعلًا، لكان ذلك حدثًا مفصليًا دوّنته المصادر بإسهاب. أما الادعاء بأن بعضهم حجّ متخفيًا، فلا يسنده تاريخٌ موثّق، ويبدو أقرب إلى محاولةٍ متأخرة لتجميل الصورة، واستدعاء الرمزية الإسلامية لتبرير ممارسات سياسية لا تنسجم مع تلك الرمزية.
وتزداد المفارقة حين تُطرح تساؤلات معاصرة عبر محركات البحث عن سبب عدم حجّ السلاطين، وتأتي الإجابات مكرّرةً لمقولات فقهية عامة: الخوف من الفتن، طول الغياب، جواز الإنابة. غير أن هذه التبريرات تظل ناقصة ما دامت المصادر لا تذكر من أناب عن من، ولا توضّح الإطار الفقهي الذي التزم به السلاطين داخل دولتهم، لا خارجه. كما أن الاستشهاد بحوادث تاريخية بعيدة – كتعطّل الحج زمن القرامطة – لا يستقيم مع واقع دولةٍ كانت تمتلك القدرة العسكرية والأمنية على تأمين طرقها، إن أرادت.
وتذهب بعض الآراء إلى القول إن سلاطين الدولة العثمانية لم يولوا الحج مكانته، ومالوا بدلًا من ذلك إلى مظاهر دينية بديلة، كتعظيم القبور، وهو طرحٌ يعكس جدلًا عقديًا عميقًا لا يمكن فصله عن تأثيرات البكتاشية وغيرها من التيارات التي تغلغلت في صفوف الإنكشارية، وأسهمت في إنتاج فهمٍ مغاير للدين، يُستخدم لتسويغ العنف وإضفاء الشرعية عليه.
وفي خضم هذا كله، طُلب من السلطان الشاب أن يقتل أستاذه ومعلمه عمر أفندي، في انتهاكٍ صارخ لمكانة العلماء التي طالما ادّعت الدولة العثمانية صونها. وحين رفض السلطان، كان الرفض إعلانًا أخيرًا لتمسكه بما تبقى من سلطته. فجاء الردّ سريعًا وعنيفًا، حيث اندفع الإنكشارية نحو قصر طوب قابي، ألقوا القبض على السلطان، وأُعدم شنقًا أمام قصره، بعد حكمٍ لم يتجاوز أربع سنوات.
وهكذا انتهت تجربة عثمان الثاني، لا بوصفها مأساة سلطانٍ شاب فحسب، بل بوصفها شاهدًا تاريخيًا على مرحلةٍ جرى فيها توظيف الدِّين، والفتوى، والرمز، لتغطية صراعٍ سياسيٍّ عارٍ، انتهى باغتيال الشرعية، وتمكين القوة المتمردة من مصير الدولة.
- بهادر ينيشهيرلي أوغلو، مولاي السلطان: رواية رواها تحسين باشا، ترجمة: يمان كيالي (الكويت: ذات السلاسل، 2020).
- ثريا فاروقي، حجاج وسلاطين، ترجمة: أبو بكر أحمد باقادر (بيروت: منشورات الجمل، 2010).
- محمد فريد بك، تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي (بيروت: دار النفائس، 1983).