سكة حديد الحجاز:
التجارة بالدين لخدمة أهداف الأجندة العثمانية
لعل أهم ما ميز تيارات الإسلام السياسي هو استغلالهم للدين الإسلامي والعمل على الركوب عليه لتحقيق مآرب سياسية ودنيوية ضيقة، حيث عملت هذه الجماعات على دغدغة مشاعر المسلمين في عمليات التعبئة والحشد التي ظاهرها ديني وباطنها سياسي وعسكري. هذا المعطى يجد ما يبرره في البنية السلوكية للجماهير والعوام والذين لا يمكن تحريكهم باللجوء إلى خطاب عقلاني ومنطقي لتبرير الاختيارات السياسية، على اعتبار أن الجماهير، كما يقرر ذلك عالم الاجتماع غوستاف لوبون، لا يمكن تحريكها والتأثير عليها إلا بواسطة العواطف والشعارات العنيفة، وهو ما جعل هذه التنظيمات تعتمد على الشعارات الدينية في عمليات التأطير والتوجيه.
في هذا السياق، اقترنت القرارات الاستراتيجية للدول بمزدوجة ثابتة أضلاعها “موضوعية الاستراتيجية وذاتية التنفيذ والتنزيل” وهو ما دفع إلى العمل على إقناع القاعدة الشعبية بالاختيارات الكبرى للدول من خلال الابتعاد عن الخوض في الأمور التقنية والتركيز على المُسَلَّمات العاطفية لخلق الإجماع حول القرار السياسي. هذا الطرح، وإن كان مقبولا في مستوى من المستويات إلا أنه يصطدم بالانضباط للنص الديني الذي يُحرم استغلال ثوابت النص خدمة لمآرب دنيوية خصوصا إذا كان الهدف “سياسيًّا” صِرفًا ولا علاقته بخدمة الدين الإسلامي في نقائه وصفائه وتجرده.
وارتباطا بنقطة البحث المتعلقة بمشروع سكة حديد الحجاز الذي أطلقه السلطان العثماني عبد الحميد الثاني سنة 1900م، أجمعت الكتابات الموضوعية التي تناولت هذا المشروع من زاوية منهجية وضبط تاريخي أن الدوافع السياسية والعسكرية كانت حاسمة في إطلاق هذا المشروع، بينما التجَأ هؤلاء إلى الدين الإسلامي لاستغلاله لحشد المسلمين في شتى بقاع العالم للمساهمة المالية في إنجاز هذا المشروع الذي جاوزت قيمته المالية ثمانية ملايين ليرة.
إن ما قام به السلطان عبد الحميد الثاني من تغير في استراتيجية التوسع من الجبهة الغربية إلى الجبهة العربية الإسلامية يتقاطع مع اختيارات العثمانيين الجدد الذين دفعهم فشلهم إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوربي لتحويل البوصلة صوب الجنوب لبسط سيطرتهم على الدول العربية من خلال إعادة إحياء أسطوانة عبد الحميد المشروخة والمرتبطة بالحشد حول مفهوم إعادة إحياء الخلافة الإسلامية التي تم استغلالها لإقناع البسطاء من العرب بالحاجة إلى الخضوع من جديد إلى الحكم العثماني على اعتبار أن أردوغان هو أحسن من يمثل صورة خليفة المسلمين.
تاريخيًّا، ورغم أن مركز السلطنة كان ينتقل بين إسطنبول والقسطنطينية إلا أنهما لم يشكلا أو يعكسا أي عمق ديني أو رمزية إسلامية وانحصرت شرعية “الخلافة” في إخضاعها لبلاد الحرمين والقدس الشريف وهو ما جعل السلطان عبد الحميد الثاني ينتبه إلى أن استقلال هذه المناطق عن حكم الآستانة يعني، عمليًّا، نهاية الحكم العثماني، ومن ثم الإسراع بتشديد القبضة العسكرية على المناطق العربية وخصوصًا منطقة الحجاز.
على مستوى تنزيل مشروع سكة حديد الحجاز فالثابت أن المصاريف الضخمة كانت جُلُّها من أموال المسلمين الذين ساهموا طواعية وفي بعض الأحيان تحت الإكراه في تمويل هذا المشروع الضخم وهو ما يؤكده سليمان قوجه باش وعبد الله أحمد ابراهيم في كتاب “السلطان عبد الحميد الثاني: شخصيته وسياسته” حيث يذكرا ما نصه: “لقد كان (عزت باشا) خير مستشار أمين للسلطان بشأن تنفيذ هذا المشروع، وقد حاز عزت باشا قصب السبق في هذا المضمار، حيث حظي بإعجاب السلطان للنجاح الذي حققه في فترة وجيزة لجمع الأموال اللازمة لتنفيذ هذا الطريق من أجل صالح العالم الإسلامي”. هذا الاعتراف بتحمل المسلمين تكاليف تشييد خط حديد الحجاز تؤكده جميع الكتابات التي تنتج من رحم الأطروحة التركية حيث أكد متين هولاكو نفس الطرح في كتابه “الخط الحديدي الحجازي: المشروع العملاق للسلطان عبد الحميد الثاني”.