تاريخ الكرد:
بين مطرقة الاحتلال وسندان ضعف التدبير الثوري
تشكل دراسة القضية الكردية مادة تاريخية دسمة نكشف من خلالها معاناة هذا الشعب في مواجهة القوى الاستعمارية الإقليمية، في ظل وقوع الأكراد -لسوء حظهم- ضحية مجال ترابي بين العثمانيين من جهة، والصفويين من جهة ثانية، وهو ما جعلهم يدفعون ضريبة الجغرافيا وغطرسة القوى الاستعمارية في المنطقة. ورغم محاولات الأكراد الدفاع عن حقهم في الوجود الإنساني، بعدما فقدوا كينونتهم السياسية، إلا أن مجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية أضعفت من موقفهم وجعلتهم ضحية أشد الكيانات الإرهابية دموية، لتستمر معاناة الأكراد ومعهم مطالبهم الاجتماعية والثقافية باعتبارها إحدى مستعمرات القرن الواحد والعشرين.
وإذا كان تعريف التاريخ عند ابن خلدون، في بعده الباطن، هو محاولة “للتدقيق وتعليل الكائنات، والعلم بكيفيّة الوقائع، وأسباب حدوثها، وبذلك يكون التاريخ عريقًا، وعميقًا، وجديرًا بأن يكون علمًا يوقفنا على أخبار الأمم الماضية وأخلاقها”، فإن دراسة تاريخ الأكراد يجب أن تتجاوز البعد الظاهر دائمًا (بتعبير ابن خلدون) إلى محاولة فهم التفاصيل التي حالت دون تحقيق هذا الشعب أهدافه السياسية التي سَطَرها بعضٌ ممن قادوا الثورات ضد الهيمنة العثمانية، ومن ثم استيعاب الدروس التاريخية في أفق البناء عليها ومراكمة الوعي المادي الجماعي لتحقيق المطالب المشروعة التي ناضل من أجلها الأكراد لقرون.
في هذا السياق، انضافت العوامل الموضوعية التي ساهمت في تكريس “الأزمة” الكردية إلى العوامل الذاتية التي حالت دون قيام حركة كردية تتوحد تحت رايتها جميع العشائر والقبائل التي تمثل امتدادًا ديموغرافيًّا وعرقيًّا للأكراد. هذا المعطى تؤكده التدافعات الداخلية بين مجموعة من التجمعات الكردية التي رفض بعضها الانضواء تحت لواء زعامة واحدة يمكن أن تشكل الطليعة الثورية التي تقود الشعب الكردي نحو الانعتاق من نير الاستعمار الصفوي والعثماني على السواء.
ورغم هذه المعيقات الداخلية والخارجية لم يفتر النشاط الثوري للأكراد منذ دخول العثمانيين أراضيهم كعرق غريب الأصل بلا أرض نجح في إخضاع كيان سياسي قائم الذات، يضم شعبًا ضاربًا في التاريخ، وعلى أرض وسماء ينطقان الكردية خالصة. وقد ساعد في هذا التوغل التركي “سذاجة” بعض العناصر الكردية التي جعلت من نفسها، منذ القرن الحادي عشر، رهن إشارة السلاجقة الأتراك وبعدهم العثمانيين؛ ليُسْتَثمرَ الأكراد في السياسات التوسعية للأتراك وخاصة على العهد العثماني.
ويبدو أن الأكراد، في وقت من الأوقات، كانوا مضطرين إلى التحالف مع الباب العالي وخاصة على عهد السلطان العثماني سليم الأول، وذلك لدفع خطر التركمان السُّنَّة والشِّيعة الذين سيطروا على كامل الأراضي الكردية إلى درجة أن زعيمهم حسن الطويل كان يرى في نفسه تيمور لنك التركمان الذي سيوحد جميع الأراضي تحت قيادته ويؤسس لكيان سياسي تركماني عاصمته ديار بكر.
انطلاقا من هذا الوضع، سيعمل العثمانيون على استغلال الأكراد في تحقيق مجموعة من المكاسب العسكرية، باعتبارهم كانوا يشكلون عصب الزاوية في الجيش العثماني، بالإضافة إلى دورهم في إخماد الثورات الداخلية التي قامت بها بعض المجموعات العرقية الأخرى. هذا الواقع المعقد، الذي قد يشكل -بالنسبة للبعض- نقطة انتقاد شديدة للأكراد، إلا أن إكراهات المرحلة ربما لم تترك لهؤلاء هامشًا كبيرًا للمناورة بالنظر إلى أن العثمانيين والصفويين وباقي المجموعات العرقية المهمة (التركمان) كانوا يريدون إيجاد موطئ قدم لهم على حساب الوجود الكردي ومن ثم لو كانت أمامهم مجموعة من البدائل والاختيارات للجأوا إليها لتحقيق حلم حياة الأكراد في فترات تاريخية معينة في ظل بيئة استراتيجية داخلية وخارجية معقدة عدائية.
إن مراجعة تاريخ المواجهات الكردية العثمانية تحيل على مجموعة من الخلاصات لعل أهمها أن “مجمل” التحركات الكردية كانت عبارة عن ردات فعل عكسية اتجاه السياسات الاستعمارية العثمانية باستثناء بعض المبادرات (ثورة بدرخان) التي كانت منطلقاتها ذاتية وحاولت تجاوز أخطار الثورات السابقة التي كانت تفتقد للنضج الثوري والتنسيق الذاتي والضبط العرقي، ومن ثم أعطت الفرصة لقوة استعمارية متمرسة لوأد هذه الانتفاضات والقضاء على الطموحات الثورية للأكراد.
أمام هذه الوقائع التاريخية، نجد أنفسنا نتقاطع مع ما قاله الباحث حسين جمو في مقالته “العثمانية والكرد…تحالف مرتبك وميراث دموي يتجدد” إذ يصف التدافع الكردي العثماني بقوله “كانت جالديران سنة 1514م فرصة لتأسيس علاقة تركية كردية جديدة، تتجاوز الخبطة المدوية التي تلقاها الكرد على أيدي السلاجقة ومن تبعهم. في المقابل، كانت هذه الوقعة فرصة لبني عثمان أن يتخلصوا من الصداع الذي تسببه لهم قبائل التركمان البدوية، الرافضة لمبدأ الدولة الإمبراطورية نفسها. فـ”سليم الأول” بهذا المعنى، استقوى بالكرد ضد الصفويين، وقوّاهم ضد التركمان الذين كانوا من الرعايا غير المرغوب فيهم عثمانيًّا في تلك الفترة، لرفضهم التحول إلى رعايا بالمفهوم السائد”.
إن الخبث العثماني سيدفع بالغزاة إلى الانقلاب على حلفاء الأمس بمجرد إخماد طموحات التركمان وإضعاف العدو الصفوي، حيث قاموا بمحاولة تكريس واقع التبعية السياسية للأكراد من خلال التأكيد على السيادة العثمانية على الأراضي الكردية، وتحويل الأكراد إلى خزان عسكري يُلْتَجَأُ إليه في الحملات التوسعية للعثمانيين أو إخماد أي تمرد داخل أية منطقة خاضعة لحكم الأتراك بالإضافة إلى خزان ضريبي يمد الخزانة العثمانية بكتلة مالية لم تُصرف يومًا في مشاريع تنموية لفائدة الأكراد. وأمام رفض هؤلاء لهذا الواقع الطبقي كان الباب العالي يلجأ إلى أسلوب الوقيعة والخداع ومحاولة شق الصف الكردي، وفي حالة فشل هذا المحاولات كان يلجأ إلى الأساليب الخشنة الصلبة في إخماد الثورات الكردية.
ويصف لنا المؤرخ أحمد تاج الدين بعض هذه المؤامرات والدسائس العثمانية في كتابه “الأكراد: تاريخ شعب…وقضية وطن” بقوله: “…ومن يومها وضع نصب عينيه (يقصد الأمير بدرخان) تجنيب الإمارة دسائس الباب العالي ومحاولات الوقيعة بين العشائر الكردية لكي تفني بعضها بعضا فيُقْضَى على الضعيف ثم تبحث للقوي عمن هو أقوى منه لكي يقضى عليه هو الآخر”. ويبدو أن هذا الأسلوب الخبيث كان سلاحا فتَّاكا في إخماد معظم الطموحات الثورية للأكراد ولعل أهما ثورة بدرخان باشا الذي كان، الأقرب والأقدر على هزيمة العثمانيين وإقامة دولة كردية واسعة الأطراف لولا الخيانة التي قادها عز الدين بشير قائد ميسرة الجيش الكردي الذي انضم إلى الأتراك أثناء المعركة وقام باحتلال إمارة الأمير علي بدرخان وهو ما أدى بهذا الأخير إلى تقسيم جيشه والعودة إلى تحرير مركز الثقل السياسي للأكراد وهو ما أثَّر على استمرار المعارك لتنتهي المواجهات بهزيمة جيوش بدرخان والقضاء على الآمال الكبرى التي علقها الأكراد على هذه الثورة.
ورغم فشل جميع الثورات التي قام بها الأكراد في سبيل الانعتاق من حالة البؤس والفقر والتخلف التي سببها الاحتلال العثماني، إلا أن المراكمة الثورية ساهمت في خلق وعي مادي جماعي حول ضرورة تغيير استراتيجية الصراع من خلال مقاطعة الأساليب الثورية التقليدية والابتعاد عن منطق المركزية القبلية والعمل على إعداد الكوادر الثورية القادرة على قيادة العمل الثوري وتوجيه القواعد وفق تكتيكات مبنية على قراءات دقيقة للبيئة الاستراتيجية وعلى موازين القوى المتغيرة في المنطقة.
إجمالاً يمكن القول، بأن الأكراد في وقتنا الحالي أصبحوا أكثر قدرة على الدفاع عن مطالبهم التاريخية من خلال تواجدهم المكثف خارج دائرة سيطرة الأتراك وانتشارهم في أكثر من بلد (وخاصة من أوروبا) وهو ما جعل حربهم على “الخطوط الخلفية” تتميز بالضراوة والحدة، خصوصا في ظل الوعي الدولي بالقضية الكردية، وأيضا انخراط الأكراد في الاستراتيجية الدولية للقضاء على الإرهاب وكفاءتهم في مواجهة التنظيمات الإرهابية. ويبدو أن الطريقة التي تدار بها الأمور في كردستان العراق والاستقرار الذي تنعم به المناطق الكردية هناك دون غيرها، دفعت مجموعة من الساسة إلى الاقتناع بأن الرهان على العرق الكردي قد يكون مخرجا للقضاء على ظاهرة الانفلات الأمني التي تعرفها المنطقة، على اعتبار أن التعامل مع الأكراد في سوريا والعراق أثبت بأنهم شعب متشبع بمنطق الدولة الحديثة وبأن قيام دولة كردية سيساهم في تحقيق التوازن الاستراتيجي في المنطقة بعيدا عن حسابات ما بعد الحرب الباردة، التي أثبتت بأنها اختيارات فاشلة ومتجاوزة.