تاريخ دولتهم التركية يؤكد مراوغاتهم ووحشيتهم
الملك عبدالعزيز أدرك مبكرًا محاولات الخديعة السياسية العثمانية
تصاعد توتر الأحداث العالمية في صيف (1914) بعد أن وجد العالم نفسه أمام حرب عظمى لأول مرة، تدور رحاها في قارات العالم القديم، أُطلِق عليها فيما بعد “الحرب العالمية الأولى”. وأكدت هذه الحرب من جديد الأهمية الجيوسياسية لمنطقة الشرق الأوسط، هذه المنطقة التي لعبت دورًا مهمًّا أثناء هذه الحرب.
في خضم هذه الأحداث المتسارعة، وجد المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود نفسه في موقفٍ يحتاج فيه إلى المعاملة بمنتهى الحكمة السياسية؛ خاصةً فيما يتعلق بالتوازن بين القوى العالمية المتصارعة بينها في المناطق القريبة في الشرق الأوسط.
وعلى الرغم من أن الدولة العثمانية حاولت كسب ود الملك عبدالعزيز وثقته، ليكون قريبًا منها في توازنات الحرب، إلا أن المؤسس كان يعي جيدًا أن العثمانيين سيسارعون إلى التخلي عن أي وعود أو التزامات إذا ما تقاطعت هذه الوعود والالتزامات مع مصالحهم. وعمليًّا صدقت رؤية الملك عبدالعزيز في العثمانيين، إذ إن دولتهم مع ما قدمته من محاولات تقرب كانت تقدم المساعدة والتأييد إلى خصومه بشكلٍ مباشر وخفي ضده.
كان العثمانيون يطمحون من هذه السياسة المتناقضة مع الملك عبدالعزيز إلى وقف توحيد الوطن السعودي كعادتهم التي سعوا إليها في عصر الدولتين السعوديتين الأولى والثانية، كذلك دخلوا في أزمة بُعدهم عن الخليج العربي بعد طردهم من الأحساء، وهو المنطقة الحيوية لا سيما في خضم الحرب العالمية الأولى، ومناوأة القوى المحلية المتنامية في الخليج العربي. أما في غربي الجزيرة العربية فكانت الدولة العثمانية تسعى إلى ضمان بقاء الروابط القوية مع شريف مكة من أجل الحفاظ على الدعاية الدينية المزيفة التي تروج لها في العالم الإسلامي، إلى جانب وعد والي مكة المكرمة بالحفاظ على خط سكك حديد الحجاز، الذي كانت الدولة العثمانية تنظر إليه ليس فقط على أنه وسيلة مهمة لنقل الحجاج من العالم الإسلامي، ولكن أيضًا وسيلة نقل حيوية لنقل الجنود العثمانيين والإمدادات إلى الجزيرة العربية لدعم قوتهم المتهالكة التي ضعف فيها النفوذ العثماني في المنطقة.
ازداد الموقف حرجًا في المنطقة مع بدايات الحملة العثمانية على قناة السويس، هذه الحملة التي خرجت من الشام واجتازت سيناء للسيطرة على قناة السويس، من أجل قطع أهم شرايين بريطانيا التي تربطهابأهم مستعمراتها وهي الهند.
خلال ذلك كانت الجزيرة العربية تعاني أزمة اقتصاديةً حادّة نتيجة قطع الطرق التجارية وصعوبتها لظروف الحرب العالمية، فوجدت فيها القوى السياسية نفسها أمام تحديات سياسية واقتصادية قوية في الوقت نفسه، ما جعل مواقف بعض القوى حَرِجًة في هذه الفترة التي مر بها العالم أجمع.
فكانت البلاد السعودية في هذه الأثناء تعاني ما يعانيه محيطها من أزمةٍ اقتصادية، خاصةً بعد أن انقطعت تجارتها بشكلٍ كبير مع الأقطار التي كانت تابعة للدولة العثمانية. لذا عمل الملك عبد العزيز لإيجاد الحلول لتجاوز الأزمة.
ومع أن القوى الدولية حاولت أن تقنع القوى المحلية بالتحالف الكلي معها خلال الحرب مقابل تقديم المساعدة، إلا أن المؤسس الملك عبدالعزيز آثر -بحنكته- اتخاذ موقف الحياد من هذا الضغط الدولي العام، في المقابل لم يغلق الباب أمام المعاهدات التي تتيح له فرض شروطه في علاقاته السياسية والاقتصادية التي يرى فيها مصلحة أرضه ووطنه.
في الوقت الذي كان العثمانيون فيه يقدمون وعود التحالف للمؤسس؛ كانوا يدعمون خصومه ضده.
دخل المؤسس في محادثات مع بريطانيا صاحبة الوجود في الخليج العربي في عام (1915م) انتهت إلى عقد معاهدة “دارين” التي تعرف أيضًا بمعاهدة القطيف. والتي كان أهم بنودها اعتراف بريطانيا باستقلال ابن سعود وسيطرته على أقاليم نجد والإحساء والقطيف والجبيل وملحقاتها والموانئ التابعة لها على ساحل الخليج العربي. ويعد اعتراف بريطانيا اعتراف دولي ينسحب الأمر فيه على بقية دول العالم التي تتابعت بعد هذا التاريخ لعقد المعاهدات مع الملك عبدالعزيز في فترات لاحقة. ويرى المؤرخ المصري عبد الرحيم عبد الرحمن في تقييمه للمعاهدة: “أفادت المعاهدة السلطان عبد العزيز في سعيه إلى التخلص من الدولة العثمانية، وعززت مركزه الدولي”.
- تركية الجارالله، موقف الملك عبد العزيز من الحرب العالمية الأولى (رسالة ماجستير، جامعة أم القرى، 2004).
- حافظ وهبه، جزيرة العرب في القرن العشرين (د.م: لجنة التأليف والترجمة، 1935م).
- خير الدين الزركلي، شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز، ط3 (بيروت: دار العلم للملايين، 1985م).
- عبدالرحيم عبدالرحمن، تاريخ العرب الحديث والمعاصر، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1990).
- عبدالله العثيمين، تاريخ المملكة العربية السعودية (الرياض: مكتبة العبيكان، 1995م).