حركة الحشاشين
صورة من صور الإرهاب الفارسي في التاريخ الإسلامي
تُعَدُّ حركةُ الحشاشين من أخطر الحركات الهدَّامة في التاريخ الإسلامي؛ والحشاشون هم فرقة باطنية خرجت من عباءة الفكر الفارسي، وارتبطت بالدولة العبيدية، المسماة بالفاطمية، وإن انفصلت عنها بعد مدةٍ من ارتباطها بها، واحترفت الإرهاب السري، وأصبح الحشاشون من غلاة هذا الفكر.
أسس هذه الفرقة السرية التي أثارت الرعب في العالم لعقود طويلة “الحسن الصباح”. وتُجمع المصادر التاريخية على ميلاد “الحسن الصباح” في فارس حوالي عام (1037م)، وتوفي أيضًا في فارس حوالي (1124م)، وكانت بداياته عادية، لا تُنبئ عن تحوُّله إلى زعيم إرهابي؛ إذ بدأ مهتمًّا بالعلم والفلسفة، ويقال: إنه كان على صلة بالشاعر الفارسي الشهير عمر الخيام، غير أن الصباح كان زعيمًا لأهم جماعة سرية إرهابية تتحصن بالقلاع الشاهقة، ويهبط أتباعها للقيام بعمليات اغتيال إرهابية تَبُثُّ الرعبَ في قلوب الناس. ويصف واحدٌ من أهم مَنْ درسوا تاريخ الحشاشين وأفكارهم -وهو المستشرق الأمريكي برنارد لويس- هذه الجماعة قائلاً: “الحشاشون الإسماعيليون كانوا بحق الإرهابيين الأُوَل الذين استطاعوا تطويع الإرهاب لتحقيق أهدافهم السياسية”.
وتُحَدِّثُنا المصادر التاريخية عن كيفية تجنيد الحسن الصباح لأتباعه الذين أَطْلَقَ عليهم الفدائيين، وهم الذين يقومون بالعمليات الإرهابية؛ إذ يكون اختيارهم في سن صغير نسبيًّا، لتَسْهُلَ السيطرة عليهم فكريًّا ودينيًّا. وفي الوقت نفسه يتيح لصغير سن “المتطوع” السماح بتحمل التدريبات العسكرية الشاقة. كما كانوا يعلمونهم لغاتٍ مختلفة تتيح لهم التسلل إلى المواقع المستهدفة، وكأنهم من أهل هذه البلدان، ويسهل ذلك عليهم قيامهم بعملياتهم الإرهابية.
ويقال إنه كانوا يسيطرون على هؤلاء الشباب نفسيًا ومعنويًا من خلال جرعات من المخدر، ويُدْخِلُونهم الحدائق الغَنَّاء، فيتصورون أنهم في الجنة، وبعد ذلك يدفعونهم إلى القيام بالعمليات الإرهابية، مع وعدهم بأنهم إذا قُتِلوا سوف يدخلون الجنة التي عرفوها من قبل. ويرى البعض أن هذا المخدر الذي شاع استخدامه بينهم هو مخدر الحشيش، ويرى هؤلاء أن هذا هو السبب وراء التسمية التي أُطلِقَت عليهم بالحشاشين.
والحق أن هذه الفرقة الإرهابية كانت مصدر رعب للشرق والغرب معًا؛ إذ يصف القس الألماني برو كاردوس الحشاشين قائلاً: “الحشاشون الذين ينبغي أن يلعنهم الإنسان ويتفاداهم، إنهم يبيعون أنفسهم ويتعطشون للدماء البشرية، ويقتلون الأبرياء مقابل أجر، ولا يلقون اعتبارًا للحياة أو النجاة، وهم يغيرون مظهرهم كالشياطين التي تتحول إلى ملائكة”.
وفي تقرير مبعوث إلى الإمبراطور فردريك بربروسه، يرجع إلى عام (1175م)، يصف التقرير الحشاشين: “أنهم ساكني الجبال يأكلون لحم الخنزير الذي تحرمه شريعة الإسلام، ويأتون المحارم”. وعلى الجانب الإسلامي يشير البعض إلى الأثر الفارسي في نشأة جماعة الحشاشين وغيرها من الجماعات الباطنية.
كما يؤكد عبد الله عنان على الأثر الفارسي في دعوة الحشاشين فيقول: “تحرك دعاة الحشاشين بادئ ذي بدء في فارس؛ إذ يجب ألا ننسى أن فارس كانت كذلك منذ البداية”، مؤكدًا أن الحركة القومية الفارسية كانت تعتمد على الدعوة الثورية وفوراتها في تحطيم الدولة العباسية.
حرص الحشاشون على تصدير صورة لعامة الناس بأنهم “عُبَّاد الليل وفرسان النهار”، وتحدثوا كثيرًا عن ورع أتباعهم وتقواهم. ويرى بعض الباحثين أن الحشاشين دأبوا على تصدير هذه الصورة عن أنفسهم حتى يخفوا حقيقة أمرهم، لا سيما أمور دعاتهم وقادتهم. من هنا يشير البعض إلى حالة التناقض الشديد في أمور هذه الطائفة الغريبة السرية، فبينما يفرض دعاة الحشاشين على أتباعهم حالة الورع والتقوى، نجد نقيض ذلك بالنسبة لنخبة هذه الطائفة: “كبار الطائفة هم أبعد ما يكون عن ذلك؛ إذ كانوا يعلمون أن الدين ليس إلا وسيلة، ولا يؤمنون بشيء من تعاليمه، ويعتقدون أن كل الوسائل مشروعة لبلوغ المآرب الدنيوية التي يعنون بها دون سواها. إذ كان شعارهم لا حقيقة في الوجود، وكل أمر مباح”.
وفي الحقيقة أنه إذا نظرنا إلى ما قام به أتباع الحشاشين من عمليات اغتيال وإرهاب لأدركنا ذلك جليًّا؛ إذ تحول شعار الخنجر الذي يحمله الحشاشون إلى مصدر رعب في العالم، حتى انتقل اسمهم ودخل إلى اللغات الأوربية تحت اسم حشاش Assassin ليصبح مرادفًا للإرهاب. يقول برنارد لويس: “لم يحل القرن الثالث عشر حتى كانت كلمة حشاش Assassin قد دخلت بأشكال مختلفة في الاستخدام الأوربي بهذا المعنى، أي القاتل المحترف المأجور”.
وفي الشرق الإسلامي تحول الحشاشون إلى معول هدم للدول الإسلامية، ولعل خير دليل على ذلك أنهم نجحوا في اغتيال اثنين من الخلفاء العباسيين، كما حاولوا اغتيال السلطان صلاح الدين الأيوبي مرتين. ولم يسلم عامة الناس من إرهابهم؛ إذ أشاعوا الرعب والإرهاب في كل مكان، بقطع الطرق والاعتداء على القرى المجاورة. كما استولوا على أموال الأهالي وأمتعتهم. وتعرضت قوافل التجارة التي تمر بجوار قلاعهم للاعتداءات المتكررة، حتى شاع أن الرجل إذا تأخر عن الرجوع إلى بيته، اعتقد أهله أنه سقط في أيدي الحشاشين، فيبدأ أهله في تقبل العزاء. ولم تسلم قوافل الحجاج من إرهاب الحشاشين؛ ففي عام (1105م) تجمعت قوافل الحجاج في ما وراء النهر وخراسان والهند ووصلت إلى نيسابور. فقام الحشاشون بالهجوم على هذه القوافل، وقتلوا مَن قتلوا، واستولوا على كل الأموال والأمتعة، إذ وُجِدَ علماء وأئمة وزهاد من بين الضحايا.
أرعبت العالم وعملت وفق تعاليم القومية الفارسية المتطرفة، ورعت القتلة المأجورين.
وإذا أجرينا تقييمًا لهذه الحركات، أو أردنا الحديث عن أثر هذا الإرهاب على العالم الإسلامي، وهل نجح إرهاب الحشاشين في نهاية الأمر، فإن آراء المؤرخين الثقات تؤكد فشلهم؛ إذ يشير عنان إلى أن هذه الحركة حاولت “هدم تعاليم الإسلام الأولى” وحاولت تمزيق “وحدة الإسلام منذ البداية” لكنها فشلت في نهاية الأمر.
كما يؤكد برنارد لويس على فشل إرهابهم فيقول: “إن الحشاشين الإسماعيليين فشلوا فشلاً ذريعًا ونهائيًا؛ إذ لم يتمكنوا من قلب النظام القائم، بل لم ينجحوا في السيطرة على مدينة كبيرة واحدة، وحتى ممتلكاتهم التي تحرسها القلاع، لم تكن أكثر من إمارات صغيرة، لم تلبث حينما جاء الوقت أن اقتحمها الغزاة”.
- برنارد لويس، الحشاشون، تعريب: محمد العزب موسى، طـ2 (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2006.(
- أبو حامد الغزالي، فضائح الباطنية، تحقيق: عبدالرحمن بدوي (الكويت: دار الكتب، 1964).
- عبد الوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2013).
- محمد الخُشت، حركة الحشاشين (القاهرة: مكتبة ابن سيناء، 1988).
- محمد عبد الله عنان، تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة في المشرق (القاهرة: مؤسسة المختار، 1991).
مارست "الباطنية" جرائم الاغتيال
والفتنة والانفصال في التاريخ الإسلامي
التأويل الفاسد للنص القرآني يؤدي -بالضرورة- إلى فساد الرأي، ومِنْ ثَمَّ “يفيض” بالفهم إلى الممارسة الخاطئة، ويصير التأويل هو الفهم المُشبَع والفعل المُتَّبَع. ولقد رأت الباطنية الفارسية استحالة التمكين لعقائدها الفاسدة خارج الإطار الديني، وسعت إلى تبني تكتيكات الهدم من الداخل من خلال ادعاء الانتماء والاقتداء ببعض الصحابة والأئمة الصالحين.
لقد وجدت الباطنية في الفهم الأفلاطوني، مُرْتَكزًا لإخفاء عقائدها الباطلة وعدم إظهارها إلا لخاصة الخاصة. وهنا نجد أن أفلاطون “كان يورد فكرة واحدة بعبارات مختلفة، ويجعل لكل واحدة معاني مختلفة أو متناقضة، وخاصة عند كلامه عن المسائل الإلهية؛ فيذكر أنه من المستحيل كَشْفُها لكل الناس؛ لأن النور الذي يفيض من هذه الحقيقة يُبْهِرُ أعين العامة”.
ولعل من أهم مظاهر الباطنية، التقية بمرجعيتها الأفلاطونية، هي تلكم الخصلة المعنية بإسقاط التكليف وكثرة التأليف وإباحة المحرمات سرًّا والتبرؤ منها جهرًا. وحول هذه النقطة نجد أبا حامد الغزالي يقول: “والمنقول عنهم الإباحة المطلقة ورفع الحجاب واستباحة المحظورات واستحلالها وإنكار الشرائع. إلا أنهم بأجمعهم يُنكرون ذلك إذا نُسِبَ إليهم”.
إن ادِّعاءات الباطنية تفضحُها حقيقةُ عقيدتِهِم الفاسدة، التي تسربت من الخاصة إلى العامة، ويكفي القول بأنه ما من فساد في الرأي أو شذوذ في الفعل إلا ووجد الباطنيةُ له تأويلاً من النص، حتى وصل بهم الأمر إلى استباحة الأعراض بالمطلق، وكانوا من دعاة الحرام بكل أشكاله.
وبالرجوع إلى السياقات التاريخية لتَشَكُّل هذا الفكر الشاذ، تضاربت الروايات حول أصل هذه النبتة الخبيثة ومؤسسها الأول، وربما يطول بنا الشرح والتفصيل ويخرج بنا عن نقطة البحث. غير أن عدم التفصيل لا يمنع من بعض التأصيل، مع التركيز على شخصية غريبة تقول المصادر إنها المؤسس الأول للأفكار الباطنية ويطلق عليه اسم “عبد الله بن ميمون بن قَدَّاح…وطبقًا لهذا الزعم، فقد كان ميمون القَدَّاح أحد أتباع أبي الخطاب وأسَسَّ فرقةً تسمى الميمونية. وكان ديصانيًّا أيضًا، مناصرًا لابن ديصان رأس هراطقة حران الشهير، والثنوي المؤسس للمذهب العرفاني المسيحي الديصاني… ثم تتطور القصة أكثر مع ابن ميمون الذي زعم أنه نبيٌ، ودعم هذا الزعم بممارسة الشعوذة والحِيَل. كما نَظَّم حركة وأسس نظامًا من المعتقدات يتألف من سبع مراحل تبلغ ذِرْوَتُها بالانحلال الأخلاقي والإلحاد.
لقد تحولت تعاليم القداح إلى دستور معتمد من طرف بعض الفرق الباطنية والدولة العبيدية، وهي التنظيمات التي اجتهدت في هدم الإسلام على اعتبار أنه المسؤول عن انفراط عقد الفرس وسقوط إمبراطوريتهم.
وحول دوافع عبد الله بن ميمون وأهدافه السياسية، يقدم أنور الجندي قراءة مهمة في خلفيات الفكر القَدَّاحي فيقول: “يؤكد مؤرخو الغرب، مثل دي ساسي وديموج بوجه خاص، بوجود دافع سياسي لدى عبدالله بن ميمون القداح في القضاء على سلطان العرب والإسلام الذي جلب إليهم تلك السلطة، وإرجاع مجد فارس القديم مرة أخرى”. ويؤكد عبدالله الدوري في كتابه (العصور العباسية المتأخرة) القول بأن القداح أراد أن يُقَوِّضَ الإسلام فأشعل الشعور الباطني عند الجماهير، وكوَّن المذهب القرمطي المؤدي إلى الإلحاد، واستغل اسم إسماعيل بن جعفر الصادق في إثارة حركة شيعية قوية تنقل الملك إلى أحد أحفاده باسم المهدي.
أهم أهداف الباطنية الثابتة تمحْوَرت حول هدم الإسلام وإسقاط الأركان والاستهانة بالأحكام.
ومن جانبه، يذكر القيرواني الباطني في رسالته إلى سليمان بن الحسن ما نصه: “إني أوصيك بتشكيك الناس في القرآن والتوراة والزبور والإنجيل، وبدعوتهم إلى إبطال الشرائع، وإلى إبطال المعاد والنشور من القبور، وإبطال الملائكة في السماء”. وبعدها يستمر القيرواني في الكشف عن خبث الدَّعوة ودناسة المعتقد فيقول: “وما العجب من شيء كالعجب من رجل يدعي العقل، ثم يكون له أخت أو بنت حسناء، وليست له زوجة في حسنها، فيُحرمها على نفسه وينكحها من أجنبي، ولو عقل الجاهل لعلم أنه أحق بأخته وبنته من الأجنبي”.
لقد سجل الباطنية شُهْرَتَهم بالدماء والغدر والخيانة وانبرت فرقُهم لطعن الإسلام من الداخل؛ خدمةً لعقائد المجوس السباقين لوضع الأسس الأولى للباطنية. تفننت فرقهم في استباحة دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم، وتمكنت من تأسيس دول تدين لمعتقداتها بالولاء والانتماء.
لذلك استهدفت الباطنية على مرِّ تاريخها مراكز ثقل الدولة الإسلامية من خلال التركيز على اغتيال العناصر المؤثرة في صناعة القرار السياسي (نظام المُلْك وغيره)، وهي الاستراتيجية ذاتها التي يتبناها أي تنظيم يدَّعي الانتماء إلى الدين، وينفذ أجندة إرهابية، كما كان لدى التنظيم الإخواني الذي استخدم الاستراتيجية الباطنية ذاتها، عندما تبنى “سيد قطب” تكتيكه الخبيث ضد نظام جمال عبدالناصر، الذي أطلق عليه “نظرية قطف الرؤوس”.
- أبو حامد الغزالي، فضائح الباطنية، تحقيق: عبدالرحمن بدوي (الكويت: دار الكتب، 1964).
- فرهاد دفتري، الإسماعيليون: تاريخهم وعقائدهم، ط2 (بيروت: دار الساقي، 2014).
- عبدالقاهر البغدادي، الفَرق بين الفِرق (القاهرة: مكتبة ابن سينا، 1988).
- محمد الخطيب، الحركات الباطنية في العالم الإسلامي، ط2 (الرياض: دار عالم الكتب، 1986).
جرائم الباطنية الفارسية في التاريخ الإسلامي
القرامطة من سرقة الحجر الأسود إلى سفك دماء المسلمين الأبرياء
لم يكد الفرس يخترقون الدولة العباسية خلال حكم الخليفة المأمون خلال الفترة (814-833م) حتى قفزوا إلى الثورة على العباسيين وعلى الدين الاسلامي، بعد أن تغلغلوا حتى كادوا يُنْهُون الدولة من داخلها، بهدف خصومة العرب والمسلمين، بعد أن اعتبروا العرب خصمًا لهم؛ إذ قضى العرب على إمبراطوريتهم الساسانية في معركة القادسية، فعملوا على تغلغل الأفكار وحاولوا حرف البوصلة، وساهموا في تغوُّل الفرق الباطنية. وكانت أكثر الفرق الباطنية ذات المنشأ الفارسي شراسةً وعنفًا وانحرافًا فرقة القرامطة، التي أغارت على أقدس أقداس المسلمين – مكة المكرمة- ونهبتها واستولت على الحجر الأسود، وغَرَّبَتْهُ لديها عقدين كاملين من الزمن، ونهبت مكانته وعرضته للإتلاف، ونشرت الاختلاف واستحلت الدماء المعصومة في البلد الحرام في الشهر الحرام.
شريعة القرامطة الفارسية:
عند البحث عميقًا في شرائع القرامطة وأفكارهم التي يعتنقونها نهتدي فورًا إلى أنهم تأثروا بالفرس وعباداتهم وخرافاتهم في كل شيء، فتعاليمهم في العبادات فارسية، وأعيادهم كذلك، إذ يقدسون يوم النيروز الفارسي، إضافةً إلى أنهم يطبقون الإرهاب الفارسي، ويُكَفِّرُون من لا يؤمن بشريعتهم، ويستبيحون قتل النساء والأطفال ممن يخالفهم.
أول ثورات القرامطة في البحرين والكوفة:
كانت البحرين منصة دائمة للأحلام الفارسية، وكما كانت في السابق لاتزال في عصرنا الحاضر حلم الفرس لاختراق الجزيرة العربية. بدأت أولى ثورات القرامطة الدموية في البحرين عام (899م)، ثم تلاها ثورة في الكوفة (902م)، وخلال ثوراتهم قتلوا واستباحوا، وتوسعوا وجمعوا حولهم بعض من اغتر بشريعتهم المنحرفة. وكانت الدولة العباسية في مرحلة ضعف واستهانة، فلم تتصد لهم، واكتفت بتسوير البصرة وحمايتها، فقد كانت ثورات متعددة في أكثر من مكان إذ لحقهتا ثورة في الشام، لقد كان هدفهم تحطيم الخلافة وتفريقها.
والقرامطة فرقة باطنية متطرفة، كانوا يُظْهِرُون الرفض (التَشَيُّع)، ويبطنون الكفر المحض، قال عنهم “أبو الفرج ابن الجوزى” بأنهم فرقة من الزنادقة الملاحدة من الفرس الذين يعتقدون نبوة زرادِشت ومَزْدَك. أما تسميتهم بالقرامطة، فهي نسبة إلى حمدان قِرْمِط بن الأشعث البقار، وهو رجل نشيط من دعاة الباطنية – كان في مشْيِه قَرْمَطَةٌ، أي تقارب خُطًى- وكان يعمل فرَّانًا في الكوفة، وكان يدعو إلى إمام من أهل البيت.
أول ظهور فعلي للقرامطة على مسرح الأحداث كان في سنة (899 م) على يد أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنابي الذي خرج إلى البحرين، فأقام بها تاجرًا يبيع الطعام، وانضم إلى دعاة الباطنية بالقطيف وظهر بينهم، حتى تغلب على أمرهم، فاستجابوا له، والتفوا حوله، فصار أميرهم، وانتشر ذكره في البحرين، وكثر أتباعه، وقويت شوكته، ومن ثم أخذ يعيث في الأرض فسادًا، فقاد أتباعه للإغارة على هَجر في الأحساء سنة (900م) فتغلبوا عليها جميعًا، وقتلوا ما لا يُحْصَى من أهلها، وسَبَوْا، وأفسدوا، فجهز الخليفة إليهم جيشا كثيفًا، فتمكن القرامطة من أسرهم جميعًا، ثم قتلهم أبو سعيد، وأبقى على حياة قائدهم- العباس ابن عمرو الغَنوي.
القرامطة فرقة من الزنادقة الملاحدة من الفرس الذين يعتقدون نُبُوَّة زرادِشت ومَزْدَك.
البحرين والأحساء في يدي القرامطة!!
استولى القرامطة على البحرين والأحساء، واتخذوا من هجر قاعدة لهجماتهم على الدولة العباسية وقوافل الحجاج، وارتكبوا خلالها فظائع وشناعات روَّعَت المسلمين ترويعًا شديدًا، ومنعت الكثيرين من أداء مناسك الحج في بعض الأعوام خوفًا من التعرض إلى هجمات القرامطة المفاجئة.
وعلى الرغم من القوة البادية للقرامطة، التي مكنتهم من هزيمة قوات الدولة العباسية في كثير من المواجهات التي وقعت بين الطرفين، وأتاحت لهم الاستيلاء على بعض البلاد العراقية والحجازية والشامية والمصرية، على الرغم من ذلك فإنه لم يكن للقرامطة دولة بالمعنى الدقيق، إنما كانوا قوة عسكرية غاشمة، تعتمد في استمرار وجودها على تلك الغارات المباغتة التي تشنها على البلاد المجاورة، أو مهاجمة القوافل- وبخاصة قوافل الحجاج- وتحصل من هذه وتلك على الغنائم والأسلاب، فترجع بها إلى قواعدها في البحرين والأحساء، ومن ثم تساعدها على البقاء إلى حين.
القرامطة في الشام:
خلال الفترة (902-903م) ظهر القرامطة في بلاد الشام تحت قيادة زكرَوَيه بن مِهْرَوَيْه واجتاحوا من تصدى لهم من قوات العباسيين والطولونيين، وعاثوا فيها فساداً، وقتلوا من أهلها مالا يُحصى، ونهبوا الأموال، وأحرقوا الديار والأثاث، ثم دارت الدائرة عليهم بعد ذلك حين انطلقت الجيوش العباسية من العراق لقتالهم بقيادة محمد بن سليمان الكاتب والحسين بن حمدان، فانهزم القرامطة، وقُتل منهم خَلْقٌ كثير، وأُسِرَ عدد كبير، وفر هارباً من بقى منهم- وهم قليل- إلى قواعدهم في شرق الجزيرة العربية.
ظل أبو سعيد الجنابى على رأس القرامطة نحو خمسة عشر عاماً، حتى قتله خادمه سنة (913م)، فتولى أمرهم ولده: أبو طاهر سليمان بن الحسن بن بهرام الجنابي، وامتدت ولايته عليهم إلى سنة (944م). ويُعَدُّ أبو طاهر أقوى رؤساء القرامطة، وأطولهم عهداً، وأشدهم خطرًا على الدولة العباسية، وعلى المسلمين في المنطقة عامة، وحجاج بيت الله الحرام على وجه الخصوص.
سبي البصرة واستباحة الدماء:
لقد فعل القرامطة الأفاعيل في الدولة العباسية، فما كانوا يدخلون مكانًا إلا دمروه واستباحوه، وكانت خطتهم الإغارة المفاجئة والاستيلاء على المدن والقرى وإثارة الرعب والفزع فيها، وهو منهج الإرهابيين نفسه اليوم، كما تفعل داعش في زماننا، فكل فكر إرهابي يشرب من “الفكر الفارسي”.
وفي عام (923م) انقض القرامطة على مدينة البصرة فنهبوها، وسَبَوْا أهلها، وطلب أبو طاهر الجنابي من الخليفة ضمها إلى ولايته هي والأحواز، فرفض ذلك الطلب، فأغار القرامطة في العام التالي على الكوفة، واستباحوها ستة أيام، وحملوا ما استطاعوا من أموالها ومتاعها، وعادوا إلى بلادهم، فضج الناس فزعاً منهم، فسير إليهم الخليفة المقتدر جيشا كبيراً، فهزمه أبو طاهر وأتباعه وشتتوه، واستولوا على الرحبة والرقة في شمال الشام.
وسنة (927م) كانت جولة أخرى من القتال بين القرامطة وجيوش الدولة العباسية انتصر فيها أبو طاهر ورجاله – وكانوا نحو ألفي وسبعمائة مقاتل- على القائد العباسي يوسف بن أبى الساج وعشرات الألوف من الجنود، في معارك قرب الكوفة والأنبار، حتى اقتربوا من العاصمة بغداد، وقتل القرامطة يومئذ كثيرًا من الجند وأسروا الألوف، حتى تعجب الخليفة المقتدر، حين بلغته أخبار هزيمة جيوشه فقال: “لعن الله نيفًا وثمانين ألفًا يعجزون عن ألفين وسبعمائة”.
القرامطة والحجر الأسود:
لا يمكن أن ينسى المسلمون الجرائم المنكرة للقرامطة في مكة المكرمة، فحتى هذه الأراضي المقدسة لم تسلم من فساد عقولهم وانحراف تفكيرهم، لكن كل ذلك يُفْهَمُ إذا عرفنا أنهم ينطلقون من حقدهم على الإسلام والمسلمين، والمكان الذي ولد فيه النبي العربي والرسالة التي انطلقت من مكة المكرمة.
جاء عدوانهم على بيت الله الحرام وحجاجه في عام (929م) حين اقتحموا مكة المكرمة في سبعمائة رجل، وأعملوا القتل في أهلها وفي الحجيج يوم السابع من ذي الحجة استعدادًا للوقوف بعرفات وأداء المناسك، فقتلوا يومئذٍ نحو ثلاثين ألفًا منهم، واقتحموا المسجد الحرام، واقتلعوا الحجر الأسود وباب الكعبة، وأستارها، واحتفظوا بها أكثر من عشرين سنة في مركز حكمهم بالقطيف، وردموا بئر زمزم بجثث القتلى الذين سفكوا دماءهم في المسجد، أما زعيمهم أبو طاهر فقد وقف على عتبة باب الكعبة، وصاح منتشياً: “أنا بالله، وبالله أنا، يخلق الخلق وأفنيهم أنا”.
ولما رجع القرمطي إلى بلاده، تبعه أمير مكة هو وأهل بيته وجنده وسأله وتشَفَّع إليه في أن يرد الحجر ليوضع في مكانه، وبذل له جميع ما عنده من الأموال، فلم يفعل فقاتله أمير مكة فقتله القرمطي، وقتل أكثر أهله وجنده، واستمر ذاهبًا إلى بلاده ومعه الحجر الأسود وأموال الحجيج. قال ابن كثير: “وقد ألحد (أفسد) هذا اللّعين في المسجد الحرام إلحادًا لم يسبقه إليه أحدٌ ولا يلحقه فيه“.
ولم يتمكن أحد من أداء المناسك في ذلك العام، ثم عاد القرامطة بعد ارتكابهم تلك المجزرة البشعة، وظل الحجر الأسود في حوزتهم، حتى ردوه إلى الكعبة عام (951م)، وقالوا في ذلك: “أخذناه بأمر وأعدناه بأمر”، وهو كلام لا معنى له.
- إسماعيل ابن كثير، البداية والنهاية، تحقيق: عبد الله التركي، (دار هجر للطباعة، 1418ه-1977)
- أبو حامد الغزالي، فضائح الباطنية، تحقيق: عبدالرحمن بدوي (الكويت: دار الكتب، 1964).
- عبدالقاهر البغدادي، الفَرق بين الفِرق (القاهرة: مكتبة ابن سينا، 1988).
- غالب عواجي، فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وبيان موقف الإسلام منها، ط4 (جدة: المكتبة العصرية، 2001).
- محمد الخطيب، الحركات الباطنية في العالم الإسلامي، ط2 (الرياض: دار عالم الكتب، 1986).
- محمد عبدالله عنان، تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة في المشرق (القاهرة: مؤسسة المختار، 1991).