بدعوتهم للعباسيين صنع الفرس لأنفسهم دولةً عنصرية داخل الدولة العربية

تعد الدعوة العباسية من أهم التحولات في التاريخ الإسلامي، وبالقطع يرجع ذلك إلى نجاحها في إسقاط أول دولة وراثية في تاريخ الإسلام، ونقصد بها الدولة الأموية. وترتب على ذلك قيام دولة العباسيين، التي استمرت في الحكم لعدة قرون، رغم العديد من المتغيرات السياسية، التي أصابتها بالوهن.

لكن ما يهمنا هنا هو الدور الفارسي في الدعوة لآل العباس، وصولاً إلى محاولة الفرس السيطرة على آليات الدعوة، ليحكموا من وراء الستار بعد نجاحها وقيام الدولة العباسية، ومدى تأثير ذلك على العنصر العربي، المُكَوِّن الرئيس للدولة العباسية.

تنتسب الدولة العباسية إلى العباس بن عبد المطلب، عم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والذي كان يحبه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويُجِلُّه، وسار على ذلك الخلفاء من بعده، توفى العباس في عهد خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولم يُعلَم عنه أنه طالب بالخلافة، كذلك لم يُعلَم عن أبنائه ذلك. بينما طالب العلويون -أبناء عليّ بن أبي طالب- بالخلافة في قصتهم المعروفة، منذ خلافة عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وما جرى معه من أحداث، وذريته من بعده.

والسؤال هنا؛ إذا كان الفرع العباسي، منذ العباس عم الرسول لم يطالب بالخلافة، فمن أين جاء هذا المستجد الذي على أساسه وُضِعَ التأسيس الأيديولوجي للدعوة العباسية؟

بدأت المسألة برواية انتشرت إلى حد بعيد، أسست لفكرة انتقال المطالبة بالخلافة من البيت العلوي إلى العباسي، على أساس أن الجميع من آل هاشم؛ إذ روَّج البعض أن أبا هاشم بن محمد بن الحنفية عندما حضرته الوفاة أوصى بانتقال الإمامة من بعده إلى البيت العباسي، وعلى وجه التحديد إلى محمد بن عليّ بن عبد الله بن العباس. وعلى ذلك أصبحت الدعوة لآل هاشم بصفة عامة، ومن هنا بدأ العباسيون سعيهم للخلافة.

اتسمت الدعوة العباسية في بداياتها بالسرية؛ خوفًا من مواجهة الأمويين، والقضاء على الدعوة. لذلك بدأت الحركة بالدعوة إلى “الإمام المستور” حتى لا يعرفه الأمويون، كما رفعت شعار “الرضى من آل البيت” حتى لا يُثِيروا العلويين، وكأن الدعوة بهذا الشعار المبهم، تحتمل أي فرع من فروع آل هاشم.

ويقدم محمد عبد الله عنان تفسيرًا مهمًّا لنجاح الدعوة العباسية استنادًا إلى مفهوم العصبية لدى ابن خلدون؛ إذ يرى عنان أن: “بني العباس لبثوا زمنًا يتطلعون إلى المُلك، ولما لم تكن لهم عصبية كافية، اندمجوا في الحركة الشيعية، ووجدوا في التذرع بها وسيلة ناجعة لاستهواء الجموع”.

ومن الملاحظ أن الفرس كانوا هم أكثر أنصار الدعوة العباسية، لا سيما في منطقة خرسان، وللمؤرخ محمد الخضري اجتهادٌ في تفسير ذلك، وهو اجتهاد لا يخلو من وجاهة؛ إذ يرى الخضري أنه: “كان الذين دخلوا في الإسلام من الفرس أقرب من غيرهم إلى التأثر بآراء الشيعة؛ لأنهم لا يفرقون بين خلافة ومُلك. وكان المُلك عندهم يُنال بالإرث، وهو منحة من الله للأسرة المالكة، فمن عارضها فيه، فهو خارج عليها، يستحق المقت واللعنة. فإذا ألقي إليهم- الفرس- أن بني أمية غصبوا أهل بيت النبي حقهم سهلت إلى ذلك إجابتهم، واعتقدوا أن بني أمية يجب قتالهم وتخليص هذا الحق المقدس عنهم”.

هذا التفسير مبني على أسس دينية وثقافية فارسية قديمة، في شرح انضمام الفرس إلى الدعوة العباسية. لكن من المهم بيان العديد من الأسباب الأخرى وراء ذلك، لعل منها البُعد الجغرافي للولايات الفارسية، لا سيما خراسان، المركز الرئيس لعسكرة الدعوة، عن مركز الدولة الأموية في دمشق. وهنا تتضح لنا مدى خطورة الأطراف بالنسبة للمركز.

ويشير البعض إلى وجود عامل عنصري وراء وقوف الفرس مع الدعوة العباسية، وهو كراهية الفرس للدولة الأموية التي كانت تفضل العنصر العربي، على أساس أن “العرب هم مادة الإسلام”. ومن ثَمَّ انضم الفرس بكثرة إلى الدعوة العباسية؛ نكايةً في الدولة الأموية وطمعًا في التوصل إلى الحكم وراء ستار البيت العباسي. ويؤكد على ذلك الخضري قائلاً: “رأوا- الفرس- دولتهم قد زالت وصاروا موالِيَ للعرب … فوجدوا في هذه- الدعوة- فرصة يستردون بها شيئًا مما كان لهم من العظمة، ويذلون هؤلاء العرب… فرأوا أنهم بمساعدتهم لهذه الدولة الجديدة- العباسية- يكونون أصحاب الكلمة المسموعة فيها والسلطان النافذ، وتأثير هذا السبب في الخاصة أكثر منه في العامة”.

ويشير البعض الآخر إلى أمر مهم، وهو أن نجاح الدعوة العباسية لم يكن لأسباب دينية، أو عرقية عنصرية فقط، وإنما لعب المال دورًا مهمًّا في إنجاح هذه الدعوة. ويؤكد هؤلاء على أهمية هبات الأغنياء من مناصري الدعوة، ولا سيما في خراسان، كذلك إلى التبرعات المالية المفروضة، وأيضًا استيلاء العباسيين على أموال “بيت المال” في المدن التي استولوا عليها من الأمويين. ويشير أيضًا إلى دعوة العباسيين أنهم بصفتهم من آل البيت النبوي فلهم الحق المكتسب في “الخُمس” من الأموال. واستخدموا هذه الأموال لكسب ود الأتباع، والإنفاق على الجنود، وتمويل الحرب ضد الأمويين.

تدلنا التجربة التاريخية أنه في تاريخ الدعوات السرية ينبغي عدم الاقتصار على العامل الأيديولوجي فحسب، بل من المهم البحث عن العامل الاقتصادي وتمويل الدعوة وكسب الأتباع.

هكذا اجتمعت العديد من العوامل وراء نجاح الدعوة العباسية وقيام دولتها على حساب سقوط الدولة الأموية، وفتح الباب أمام صعود العنصر الفارسي إلى المراتب العليا في الحكم، وربما يتضح ذلك في طبيعة الدور الذي لعبه أبو مسلم الخراساني في نجاح الدعوة العباسية والقضاء على الأموييين، ويكفي أن نذكر أن هدف أبي مسلم الخراساني كان: “إن قدرت ألا تُبقي بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل”.

ويشير عنان إلى أن العباسيين بعد نجاح الدولة أدركوا مدى خطورة مراكز القوى الفارسية على استقرارها، ومن هنا كانت المواجهة مع أبي مسلم الخراساني، وبعد ذلك مواجهة البرامكة.

اعتمدت الدعوة العباسية على العنصر الفارسي للترويج لها في أطراف الدولة الأموية البعيدة.

لكن الفرس لن ينسوا أبدًا أنهم كانوا السبب الرئيس- من وجهة نظرهم- في نجاح الدعوة وقيام الدولة العباسية. حتى أصبح العنصر الفارسي بعد ذلك “دولة داخل الدولة” ونقطة الضعف الرئيسة في تاريخ العباسيين.

  1. أحمد محمد، “المال ودوره في الدعوة العباسية”، مجلة كلية التربية، جامعة الإسكندرية، المجلد الحادي والثلاثون (2021).

 

  1. حسين عطوان، الدعوة العباسية تاريخ وتطور، ط2 (بيروت: دار الجيل، 1995).

 

  1. السيِّد سالم، العصر العباسي الأول (الإسكندرية: مؤسسة شباب الجامعة، 1993).

 

  1. محمد الخضري، محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية: الدولة العباسية، تحقيق: محمد العثماني (بيروت: دار القلم، 1986).

 

  1. نبيلة حسن، تاريخ الدولة العباسية (الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، 1993).

"البِهَافَريدية"

ديانة فارسية نشأت في نهاية الأمويين وقُضي عليها في بداية العباسيين

النشأة والتكوين

لا يمكن فصل تَسَلُّطِ العنصر الفارسي وتَغَوُّلِه في داخل الدولة العباسية عن تساهل خلفاء العباسيين أنفسهم في ذلك، فقد وجدوا في الفرس أعوانًا ومساعدين، ووضعوهم في مكانة أبناء العرب الفاتحين، الذين استوطنوا العراق والشام وغيرها من البلدان التي فتحت في أول العصر الإسلامي، كان ذلك خيارًا عباسيًّا دفعوا ثمنه غاليًا فيما بعد.

وليس هناك من سببٍ مقنع يدفع العباسيين لذلك، فالدولة العربية – صَدْرُ الإسلام والأموية- كانت قد تخطت المئة سنة الأولى من عمرها واكتسبت من الخبرات الإدارية والمالية والمعرفية الشيء الكثير، لكن الخلفاء العباسيين في معظمهم، مَكَّنُوا الفرس وثقافتهم الدينية الزرادشتية من التغلغل داخل جسد الدولة حتى فتَّتَتْها ثقافيًّا واسقطتها عسكريًّا.

رحبت الدولة العباسية -منذ بداياتها- بالعنصر الفارسي في الإدارة والحكومة، وفتحت لهم الأبواب ورفعت مراتبهم، فأصبح للفرس حضورٌ واسعٌ وفاعلٌ في بغداد العاصمة، وتركوا تأثيرات عميقة في شتى المجالات.

هذا التأثير لم ينحصر في أخذ التجارب الديوانية والتشكيلات الإدارية من الفرس، بل اشتمل على كثير من المهن والمشاغل. فبعد أن اتخذت الحكومة العباسية بغدادَ عاصمة لها، تأثر العراق تأثيرًا ملحوظًا بشتى المجالات الثقافية والحضارية والفارسية، وانتشرت الفنون والمهن الإيرانية كالكتابة بالفارسية والحياكة والخياطة والذوق على الشكل الفارسي.

وعندما أصبح العراق مركزًا مهمًّا من مراكز الدولة الإسلامية وأصبحت بغدادُ عاصمة الدولة، ومركزًا لاتخاذ قراراتها، وقاعدةً مهمة من قواعد الحكم، سُمِح بهجرة كثيرٍ من الصُنَّاع وأرباب المهن الإيرانيين إليها.

الحضور الفارسي دَخَل بدينه وثقافته

حضور الفرس في الحكومة العباسية كان له تأثيرات بالغةٌ جدًّا على الإدارة العباسية، وبدا ذلك واضحًا بعد استيلائهم على الشؤون الإدارية وتوسيع نطاق عملهم في البلاد، وظهرت حِرفٌ ومهنٌ إيرانية في العراق لم تكن معروفةً من قبل، ولا أدل على ذلك من تأثير الأسرة البَرْمَكِيَّة اللاحق في الدولة العباسية.

يقول الباحثان علي أصغر میرزائي، وعبد السالم بالوي في كتاب لهما بعنوان: “انتقال المهن والصناعات الإيرانية إلى العراق في العصر العباسي” دراسة في أسباب وطُرق النقل: “لقد كان لتغلغل العنصر الفارسي في الحكومة العباسية منذ نشأتها أثره الكبير، فقد ترك الفرس لأنفسهم أثرًا كبيرًا في اهتمام الخلفاء العباسيين ورجال دولتهم بالثقافة الفارسية حتى وصل الأمر للاحتفال بعيدي النيروز والمهرجان، وهما من الأعياد الفارسية –الدينية- وقد استمر الاحتفال بهذين العيدين خلال القرنين الثالث والرابع بعد الهجرة. وكان للبويهيين تأثير بارز في المجتمع العراقي، وبخاصة  فيما يتعلق بالمراسيم الدينية في عهدهم، فقد حرصوا على إظهار تفاصيل ثقافتهم”.

الاستلاب الحضاري

كان الحضور الفارسي برضى العباسيين طاغيًا، وانتقل من الإدارة إلى الملابس والمنسوجات الفارسية، واستبدل العباسيون اللباس العربي الأصيل بالفارسي، وظهرت الأزياء الفارسية في البلاط العباسي، فلُبست السراويل والأقبية، كذلك الطيلسان الذي يعد من أشهر الألبسة الفارسية، وهو كساء مدور يوضع فوق الرأس ويتدلى على الجبين.

ولم تسلم الأطعمة العربية من دخول الفارسية عليها، فقد انتشر المطبخ الفارسي في قصور الدولة، وأصبح المفضل وتغيرت الذائقة العربية إلى ذائقة فارسية.

الظهور المبكر للمجوسية الفارسية

لم تكد الدولة الأموية تسقط حتى ظهرت أنياب الفرس المجوس الذين عملوا في صمت للخروج، وإعادة تأسيس ديانتهم ومملكتهم الساسانية التي سقطت على أيدي الفرسان العرب. ومع ضعف الدولة الأموية وتراخي يدها، وظهور الدعوة العباسية، خرجت آمال الفرس إلى العلن من جديد، دفع ذلك في نفوس الانفصاليين الفرس آمالاً كبيرة، إن هم أيَّدوا الدعوة العباسية سيتمكنون من استعادة مكانتهم وديانتهم، وبذلك ظهرت من جديد في تلك الأقاليم بعض تعاليم الديانات المجوسية (الزرادشتية والمانوية والمزدكية)، متلبسةً بثوب إسلامي أحيانًا، أو بعبارة أخرى فإن تلك التعاليم متطورة عن تلك الديانات بعد تأثرها ببعض تعاليم الدين الإسلامي، وبعد نجاح الدعوة وتأسيس الدولة وإعلان تمسك العباسيين بالدين الإسلامي، وعملهم بالكتاب والسنة، واعتمادهم على العناصر العربية – في بداية الخلافة- ، قامت تلك العناصر الفارسية بحركات متمردة ضد العباسيين، محاوَلة منها لإعادة مجدهم الغابر، وإنهاء الحكم العربي في تلك الأقاليم.

حركة الفارسي بِهَافَريد (747 – 749م):

تعد حركة بهافريد أقدم الحركات الدينية السياسية التي ظهرت في خراسان شرق الدولة العباسية في أواخر عصر الأمويين، وأثناء نشاط الدعوة العباسية هناك، واستمرت بعد تأسيس الدولة العباسية، وأسس هذه الحركة رجل يقال له بهافريد بن فردردينان، من قرية روى من أبرشهر وكان مجوسيًّا زرادشتيًّا – حاول التلبس بشيء من تعاليم الإسلام، ومنها أنه كان يصلي الصلوات الخمس بلا سجود، ومتياسرًا عن القبلة.

وتشير رواية تاريخية أنه قبل أن يعلن عن نفسه ذهب إلى الصين، وبعد عودته منها جلب معه قميصاً أخضر ناعماً دقيق الصنع، وعند وصوله إلى بلده في خراسان صعد ليلاً إلى قبة أحد المعابد دون أن يراه أحد، فرآه في الفجر أحد الفلاحين ثم اجتمع الناس حوله فأخبرهم أنه قدم من السماء حيث شاهد الجنة والنار، وأن الله قد منحه هذا القميص الغريب الذي كان في الجنة. تحرك بهافريد في نيسابور قبل إعلان الدعوة العباسية في رمضان (129هـ) الموافق (747م).

ادعى بهافريد النبوة، كما أظهر كتابًا باللغة الفارسية زعم أنه أُوحِيَ به إليه، ودعا إلى نوع معدل من الزرادشتية المجوسية، وبشر بأنه خليفة زرادشت الذي اعترف بأنه نبي، إلا أنه رفض بعض تعاليم الزرادشتية وأدخل بعض التعديلات الأساسية في ديانة زرادشت بما ينسجم مع مبادئ الإسلام وتعاليمه، ومن تعاليمه الجديدة ما يذكر من أنه أمر أصحابه بترك الزمزمة عند الطعام (كلام يقولونه عند أكلهم بصوت خفي)، وبترك شرب الخمور وأكل الميتة، ونكاح الأمهات والبنات والأخوات وبنات الأخ، وهذه الأمور ليست محرمة في التعاليم الزرادشتية، وقد أخذ تحريمها من تعاليم الإسلام، ولكنه أمر أتباعه بالسجود إلى عين الشمس على ركبة واحدة.

الدِّين الذي جاء به بِهَافَريد الفارسي خليط بين التعاليم الإسلامية والزرادشتية

كما فرض بهافريد على أصحابه سبع صلوات أولها: صلاةٌ في توحيد الله، -بينما الزرادشتية دين ثنائيٌّ وليس توحيديًّا-، وثانيها: في خلق السماوات والأرض، وثالثها: في خلق الحيوان وأسباب عيشه، ورابعها: للموت، وخامسها: للبعث والحساب، وسادسها: لموطن الجنة والنار، وسابعها: لتمجيد أهل الجنة.

ولعل واحدةً من أهم تعاليمه التي تسربت فيما بعد حلول الروح، وكان من الداعين إلى (مذهب الرجعة)، وربما كان أهم مبادئه، ومغزاه أن الإنسان لا يموت وإنما يختفي في مكانٍ ما وأنه إذا مات سيعود إلى هذه الدنيا قبل يوم الدين.

القضاء على أولى الحركات الفارسية المتمردة

تُجمع معظم المصادر أنه قُضِيَ على الحركة المتطرفة في زمن أبي العباس السفاح أول خلفاء العباسيين، وقد قاوم المجوس – أنفسهم – حركة بهافريد، وعَدُّوه منشقًّا، واجتمع الموابذة والهرابذة (رجال الدين المجوس) إلى أبي مسلم في نيسابور، وشَكَوا إليه أن بهافريد قد أفسد دين الإسلام ودينهم، فأرسل أبو مسلم شبيب بن داح وعبد الله بن سعيد فعرضا عليه الإسلام، وأسلم وسُوِّدَ (صار سيِّدًا)، ثم لم يُقْبَل إسلامُه لتكهنه فقُتِل.

تعاليمه انتشرت في خراسان خاصة بعد مصرع أبي مسلم الخراساني، إلى القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، ولعل ثبات البهافريدية على معتقداتهم يعود بعضه إلى اعتقادهم بحتمية رجوع بهافريد، إذ يعتقد أتباعه أنه صعد إلى السماء على حصان، وأنه سيعود إلى الأرض لينتقم من أعدائه.

  1. حسين عطوان، الدعوة العباسية تاريخ وتطور، ط2 (بيروت: دار الجيل، 1995).

 

  1. السيِّد سالم، العصر العباسي الأول (الإسكندرية: مؤسسة شباب الجامعة، 1993).

 

  1. علي ميرزائي وعبدالسلام بالوي، انتقال المهن والصناعات الإيرانية إلى العراق في العصر العباسي (إيران: جامعة آراك، د.ت).

 

  1. محمد الخضري، محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية: الدولة العباسية، تحقيق: محمد العثماني (بيروت: دار القلم، 1986).

 

  1. نبيلة حسن، تاريخ الدولة العباسية (الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، 1993).
تشغيل الفيديو

سيادة العرب في العصرين الأموي والعباسي دفعت الفرس إلى إثبات تَفَرُّدِ قوميتهم المزيف

إن الصراع هو السِمَةُ الثابتة في العلاقات العربية الفارسية، على اعتبار أن الفرس رَأَوا في القضاء على العرب مقدمة للقضاء على الثقافة، ومسحِ الهوية الإسلامية، ومن ثَمَّ التمكين للمعتقدات الفارسية، خاصة في بُعْدِها الزرادشتي. وإذا كانت المواجهات بين العرب والفرس تبقى إحدى مظاهر العداء الفارسي، فإن بداية العصر العباسي شهدت مواجهات من نوع خاص، بالنظر إلى التعايش الحَذِر بين العرب، أصحاب الشوكة، والفرس الخاضعين تَقِيَّةً لسلطان العرب.

في هذا السياق، وأمام حالة الوهن والضعف الفارسي، لجأ هؤلاء إلى تَبَنِّي تكتيكاتٍ جديدة في مواجهة العرب، وهي التكتيكات التي استمرت إلى يومنا هذا وأطلق عليها في أدبيات المواجهات العسكرية بـــ “الحرب بالوكالة”. وهنا يظهر بأن إيران الحالية لم تبتدع صناعة الأذرع العسكرية والحركات العميلة، وإنما هو تكتيك فارسي مُتوارث منذ العصر العباسي الأول، حين راهن الفرس على “الشعوبية” لضرب العرب ونسف الدولة العربية الإسلامية انطلاقًا من مركز ثِقَلِها.

وارتباطًا بالسياق التاريخي، يرى بعض المؤرخين بأن الشعوبية “حركة ثقافية حضارية مناهضة للعرب، كان العراق ذلك المسرح الذي ظهرت عليه…؛ لأنه كان مُلتقى العنصر العربي الغالب بالعنصر الفارسي المغلوب…، وبقيت مستترة طُوال العصر الأموي، حتى نجح العباسيون في إنشاء دولتهم، واستخدموا الموالي، واستعملوهم في المراكز الهامة…وتسلَّطت عليهم (الشعوبية) النزعة القومية، فقويت حركة الشعوبية بينهم، وتصاعد خطرها، إذ تحولت إلى ما يشبه المنظمات التي كان يشرف عليها، ويخطط لها، ويتعهَّدها ويساعدها رؤساء من الوزراء والأدباء والكتاب والشعراء من الموالي الفرس”.

ويمكن القول بأن سيادة العرق العربي في العصر الأموي والعباسي دفعت بقية “الشعوب” إلى محاولة إثبات الذات وإظهار التفرد القومي، وذلك بإعلان رفضهم لكل ما هو عربي ومن ثَمَّ “حاول أبناء الشعوب الأخرى أن يُثْبِتُوا للعرب هوياتهم ووجودهم، ويُبَيِّنُوا لهم أنهم ليسوا أفضل من سائر الأمم”.

وهنا لابد من التوضيح أن المسلمين العرب، باعتبارهم حَمَلَةَ الإسلام الأوائل إلى غيرهم، لم يكونوا لينتصروا للعِرْق، ذلك بأن معيار التَمَيُّزِ والنجاح والارتقاء في الإسلام ليس العرق أو اللسان أو اللون؛ وإنما التقوى والالتزام بثوابت النص الديني. ولذلك نُرجح أَنَّ تَغلُّبَ الهوى العرقي جعل الفرس والشعوبية يتأولان هذا البعد عند المسلمين الذين أرادوا صهر جميع العرقيات في بوتقة الإسلام الذي جاء ليقطع جميع منافذ التفرقة وعلى رأسها العرقية والقَبَلِيَّة والفِئَوية.

إن الأمانة التاريخية والاستقامة في التلقي والنقل تقتضيان الإشارة إلى أن الشعوبية انتشرت بين الأعراق غير الفارسية، ومن بينهم “النبط والقِبط، والأندلسيين، والزُّط من أهل السند، والزنج من أهل إفريقيا…، واجتمع هؤلاء على الشعوبيةُ رغم اختلاف أصولهم وأجناسهم، ومُفاخرتِهم (على العرب) واستطالتِهم عليهم، وحَطِّهم من شأنهم، وعدائِهم لهم. ولكن شيوع الشعوبية بين الأمم الأخرى لا يقلل من الدور الكبير الذي لعبه الموالي الفرس فيها، فهم أصل الداء وموطن البلاء”.

انتشرت الشعوبية بين مجموعة من الأعراق غير الفارسية، إلا أن الفرس ظلوا أصحاب الضبط والربط والتوجيه

ولعل أخطر ما ميز “الشعوبية” وما جعل الفرس يتبنون تكتيكاتها إلى اليوم (حركة المحرومين وغيرها) هي ركوبها على المطالب الاجتماعية، ومن ثَمَّ التحول إلى حركة سياسية تستهدف إسقاط رأس السلطة السياسية. وهي الاستراتيجية التي تَبَنَّتْها تنظيماتُ الإسلام السياسي، سواء المحسوبة منها على السُّنَّة أم الشِّيَعة. ولتفكيك هذه النقطة يقول المُنَظِّر الشيعي علي شريعتي: “وقد حملت الشعوبية في بداية ظهورها شعار (التسوية) أي مساواة العجم بالعرب…، ولكن بعد فترة تَحَوَّلت الحركة الشعوبية تدريجيًّا من حركة (تسوية) إلى حركة تفضيل، تدعو إلى تفضيل العجم على العرب، وعملت عبر ترويج المشاعر القومية وإشاعة اليأس من الإسلام إلى ضرب سلطة الخلافة”.

إن دراسة الحركة الشعوبية لَتُعَدُّ مدخلًا أساسيًّا لفهم الطفرات التي تعرفها المطالب الاجتماعية، عندما تكون مُنْطلقاتها عنصرية. وهنا يعتمد العرق الطارئ على تبني جبهة الدفاع عن المطالب الاجتماعية والدعوة إلى الحرية والمساواة وبقية الحقوق، وذلك بتوسيع القاعدة الماديَّة، ومن ثَمَّ العمل على تسميم الجماهير ودفعها إلى الانقلاب على رأس السلطة السياسية.

ادعاء الشعوبية الحيفَ والظلمَ مسوغات دفعت أصحابها إلى إعلان العداء للعرب، عداءٌ لا تدعمه القرائن التاريخية، إذ تقطع بأن الشعوبية تمتعوا بالمساواة المطلقة في عصر الدولة العباسية، واحتلوا أهم المناصب السياسية والاقتصادية حتى داخل البلاط العباسي. ولكن هذا الواقع الجديد لم يجعل حقدهم ضد العرب يتلاشى، بل “تآلَفَ غوغاؤُهم وزعماؤهم وأهل الرياسة والسياسة منهم، وتنامى شعورهم القومي تناميًا عظيمًا حتى تفاقم شرُّه، فإذا هم تزداد معاداتهم للعرب، وتشتد مناوأتهم لهم، حتى أخذوا يجهرون بها جهرًا”.

إن اختلاف مشارب الشعوبية واختلاف منابتهم ومطالبهم لم يمنع من تحالفهم على هدف واحد ؛ وهو معاداة كل ما هو عربي، ولو أدى ذلك إلى الانقلاب على سلطان أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.

  1. بو ملحم علي، المناحي الفلسفية عند الجاحظ، ط2 (بيروت: دار الطباعة والنشر، 1988).

 

  1. حسين عطوان، الزندقة والشعوبية في العصر العباسي الأول (بيروت: دار الجيل، 1984).

 

  1. حسين عطوان، الدعوة العباسية تاريخ وتطور، ط2 (بيروت: دار الجيل، 1995).

 

  1. علي شريعتي، التشيع العلوي والتشيع الصفوي (بيروت: دار الأمير للثقافة والعلوم، 2002).

 

  1. السيِّد سالم، العصر العباسي الأول (الإسكندرية: مؤسسة شباب الجامعة، 1993).