العلاقة الحميمية بين اليهود والعثمانيين

تُعَد العلاقات العثمانية اليهودية من أعقد العلاقات في تاريخ تعامل الدول مع اليهود الذين كان لهم تعبير سلوكي ديني واقتصادي وسياسي متفرد عن باقي العرقيات، وهو ما جعلهم يرفضون الانصهار ضمن منظومة الدولة (خاصة في أوروبا)، ويفضلون الولاء العرقي والديني على الولاء السياسي للدولة الحاضنة والمستقبلة، وهو المعطى الذي جعل دولة قوية مثل بريطانيا تتخوف من وجودهم وتدفع في اتجاه التخلص منهم عبر تمكينهم من بقعة جغرافية، هي في الأصل والأساس فلسطينية الهوية وإسلامية الانتماء وعربية اللسان.

وإذا كان اليهود قد واجهوا الويلات تحت الحكم الأوروبي، فإن الدولة العثمانية تفطَّنت للدور الذي يمكن أن يلعبوه في تحريك عجلة الاقتصاد العثماني، وبالتالي تمويل المجهود الحربي للدولة. ويدفع بعض المؤرخين بأن “التسامح الإسلامي والحرية التي منحها العثمانيون لليهود المبعدين من الأندلس دفع اليهود في كل دول أوروبا وروسيا القيصرية وبحر الخزر إلى الهجرة المتتالية إلى الديار العثمانية”.

في هذا الصدد، سجلت كتب التاريخ تحالفًا قويًّا بين العثمانيين، وصل إلى حد ائتمانهم في أمور الأموال وتحصيلها وجبايتها، خاصةً في المناطق العربية، حيث كان آل عثمان ينظرون إلى العرب كمواطنين من الدرجة الثانية، في حين يتم تقديم اليهود في أمور المال الذي ارتبط بهم وارتبطوا به لقرون. ويروي الوزير المغربي الإسحاقي عن وجود يهود يجمعون أموال الحُجاج القادمين إلى مكة، وكذا تمكينهم من الوظائف في جدة.

ونفس الدور كان يقوم به يهود الدولة العثمانية في مصر، وهنا نجد الجبرتي يذكر قصة ياسف اليهودي الذي قتله العساكر في مصر “وقامت الرعايا فجمعوا حطبًا وأحرقوه وذلك يوم الجمعة بعد الصلاة… وسبب ذلك أنه كان ملتزمًا بدار الضرب في دولة علي باشا المنفصل، ثم طلب إلى إسطنبول وسُئل عن أحوال مصر، فأملى أمورًا والتزم بتحصيل الخزينة زيادة عن المعتاد، وحسَّن بمكره إحداث محدثات”.

ويمكن القول بأن الدولة العثمانية لم تراهن على اليهود في المسائل المالية وتمويل المجهود الحربي فقط، بل منحت بعض الأطباء اليهود امتياز القرب من المربع السلطاني، ومنهم من وصلت مكانته إلى أن يحظى بدخول القصور والتقرب من نساء الحرملك، وهي المكانة التي لم يصل لها أي أحد من الخاصة أو بياض الحضرة داخل الدولة العثمانية. وهنا نجد ستانفورد ج شو يؤكد أن “هؤلاء اليهود الذين أثروا من خلال غناهم وعلمهم أن جعلوا أنفسهم من الناس الذين لا يستغني عنهم السلطان وقادة الطبقة الحاكمة مثل الأطباء، الماليين (الممولين) والمستشارين والدبلوماسيين، وفي نفس الوقت كانوا يستخدمون تأثيرهم لمساعدة وحماية إخوانهم في الدين الأقل نفوذًا، وفي حالات كثيرة أكثر مما يفعله القادة الرسميون”.

ومن أهم الأطباء اليهود الذين كان لهم نفوذ في البلاط العثماني المدعو “الحكيم يعقوب”، والذي كان أحد أهم الشخصيات اليهودية التي عاصرت عهد محمد الفاتح، “وكان الحكيم يعقوب واحدًا من أطباء السلطان الفاتح، وقد عمل الحكيم يعقوب طبيبًا أيضًا في أدرنة التي كانت من المدن الخمس الرئيسية في الدولة العثمانية في عهد السلطان مراد الثاني، ثم أصبح رئيس الأطباء في عهد الفاتح”.

ونشير إلى نقطة حساسة ومفصلية مرتبطة بصياغة وصناعة القرار السياسي العثماني، والمتعلقة بالدور الذي كانت تلعبه النساء داخل الحرملك، وهو مركز الثقل الذي لم يكن ليخفى على اليهود الذين اجتهدوا في اقتحام عوالم هذا الفضاء الحميمي لسلاطين آل عثمان. وقد نجح اليهود -بعد مجموعة من المحاولات- في التغلغل داخل “القصور السلطانية عن طريق النساء، حيث قام السلطان سليم الثاني بالزواج من اليهودية نور باتو، وأنجبت الأمير مرادًا الثالث، وقد مُنِحت لأول مرة لقب “مهد عليا” أي: والدة السلطان. وقد تميزت بالذكاء، وعندما تُوفِّي زوجها أخفت خبر وفاته لحين وصول ولدها مراد من مانيسه”.

نجح اليهود في اقتحام الحرملك العثماني، واستغلاله لحماية أفراد طائفتهم.

من خلال ما تقدم يتبين أن اليهود تميزوا عن غيرهم بالتركيز على امتلاك أهم مفاصل السلطة السياسية (السلطة، والمال والنساء)، وهو ما ساعدهم في عملية الانتشار الجماهيري والاختراق المؤسساتي، وبالتالي التحضير لقطف ثمار هذا التحالف من أجل تسريع وتيرة تأسيس كيان خاص بهم في فلسطين.

  1. أحمد حكمت أوغلو، اليهود في الدولة العثمانية حتى نهاية القرن التاسع عشر (إسطنبول: أركان للدراسات والأبحاث والنشر، 2018).

 

  1. أحمد النعيمي، اليهود والدولة العثمانية (عمَّان: دار البشير، عَمان، 1997).

 

  1. الإسحاقي، رحلة الوزير الشرقي الإسحاقي المغربي إلى الحج 1143هـ (الرباط: منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المملكة المغربية، 2017).

 

  1. ستانفورد ج شو، يهود الدولة العثمانية والجمهورية التركية (القاهرة: دار النشر للثقافة والعلوم، 2015).

 

  1. محمد قنديل البقلي، المختار من تاريخ الجبرتي، ط2 (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993).