ثورة المقَنَّع الخراساني:
الدين في خدمة الأهداف السياسية
يواصل موقع “حبر أبيض” التطرُّق إلى مختلف التنظيمات الدينية والسياسية التي بصمت تاريخ جغرافيا الإسلام، وأثَّرت في التوجه السياسي والالتزام الديني لشرائح من المسلمين، بل كان لها امتداد داخل منظومة الدولة الإسلامية، ونجح بعضها في التحكم في مفاصل الدولة وتوجيه ناصية قرارها السياسي.
في هذه المقالة سنتطرق إلى الفِرقة التي يُنسَب أصحابها إلى “المقَنَّع الخراساني”، الذي يقول عنه ريحان البيروني بأن اسمه هاشم بن حكيم، ويقال إنه كان دميم الوجه، بَشِع المنظر أخفى وجهه وراء قناع من الذهب، ووضع قِطَعًا من الحرير الأخضر مكان العينين في القناع، ولذلك أُطلِق عليه لقب المقَنَّع.
ويقول إدوارد براون في كتابه “تاريخ الأدب في إيران” بأن المقَنَّع “ادَّعى الألوهية، وأنه لما لم يكن في قدرة أحد أن يراه قبل التجسُّد فإنه قد دخل في قالب إنسان وفي صورة البشر حتى يُرى، وقد عبَر هذا الرجل نهر جيحون وتوجَّه إلى نواحي كَشّ ونَسَف (نخشب)”.
وإذا كان “المقَنَّع” غير مسؤول عن خِلقته، فإنه مسؤول عن سلوك ديني وسياسي خبيث هو مزيج من مجموعة من المعتقدات المُحدَثة التي تَنهَل من المعتقدات الدينية الفارسية (الحلول والتناسخ)، التي تم تَبنِّيها من طرف مجموعة من الحركات الدينية-السياسية التي كانت تبحث لها عن مُسوِّغات دينية لتبرير هدفها السياسي.
ولعل دراسة حالة المقَنَّع الخراساني تفيد في فهم الآليات التي تجعل المرء يقع ضحية المذاهب السياسية المنحرفة والتيارات الدينية الباطلة، وكذلك استيعاب آليات الاستلاب الذهنية التي تجعل العقل يتوقف أمام شخصيات “ذكية وخبيثة” لعبت على نواقص العقل البشري وتناقُضات المجتمع العمراني لخَلْق قاعدة مادية تكون حطَبًا للوصول إلى السلطة متى استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
في هذا السياق بدأت دعوة “المقَنَّع” في مرو (قريبًا من تركمانستان الحالية) كرِدَّة فِعل عكسية على بعض الاضطرابات التي لم يُحسِن تدبيرها القائمون على أمر المسلمين، وهو ما يُشكِّل -في العادة- مناسَبةً لتيارات الإسلام السياسي للركوب على حركية الجماهير من أجل تهييج العامة؛ لتحقيق أهداف سياسية بعيدًا عن الطرح الديني الأصيل.
ونشير هنا إلى أن المقَنَّع كان أحد القُوَّاد في جيش أبي مسلم الخراساني الذين ساهموا في إسقاط الدولة الأموية، كما أنه كان من الدارسين لعلوم المنطق والفلسفة، بالإضافة إلى أنه تميَّز بالذكاء الخارق، وعُرف بخفة اليد، والقدرة على السيطرة على مَن حوله، وتقول بعض الروايات أنه ادَّعى النبوة في وقت من الأوقات.
وعلى نهج دعوة “المظلومين” التي تبنَّتها تنظيمات الإسلام السياسي بشقَّيها السُّني والشيعي (الموسوي في لبنان، والإخوان في مصر وفلسطين)، سيعمل المقَنَّع على دعوة الناس للإيمان بعقيدته الشاذة، مستغِلًّا حالة الاحتراب السياسي والديني التي انتشرت في ذلك الوقت. وهكذا شكَّلَت “دعوة” المقَنَّع مزيجًا من الطموح السياسي والبحث عن إطار ديني وشخصية مرجعية (أبو مسلم الخراساني).
وحتى يبرِّر “المقَنَّع” عملية الالتحام بروح أبي مسلم الخراساني قام باعتناق عقيدة تناسخ الأرواح التي تقول بانتقال الأرواح الصالحة من شخص إلى آخر، وهي العقيدة التي قام المقَنَّع بتأويلها من خلال ادِّعاء ظهوره في صورة آدم عليه السلام، ثم في صورة موسى وعيسى ومحمد (ص)، وعلي (ك)، وأبي مسلم الخراساني.
وهنا يظهر ذكاء المقَنَّع حين استغل اسم وصورة أبي مسلم الخراساني في أعين الفرس التي تُرسِّخ -في رأيهم- لصورة من صور الخيانات العربية للفرس الذين ساهموا في خدمة المشروع “العربي”، والانتصار “للإسلام العروبي”، قبل أن يغدروا بهم، وتكون صورة أبي مسلم الخراساني شبيهة بصورة الحسين رضي الله عنه وموقعة كربلاء.
في هذا الصدد علينا أن نقف عند هذه الصورة لنشير بأن تنظيمات الإسلام السياسي لم يكن يهمها يومًا الانتصار للدين، أو تلقين الناس أصول وثوابت العقيدة، وإنما كان التركيز على “العواطف والمشاعر” لتهييج العامة من أجل تبنِّي مشاريع انقلابية عن طريق جماعة من “القطيع” يَسهُل توجيههم لخدمة المشروع السياسي والانقلابي على رموز وثوابت الدولة.
إن شخصية المقَنَّع الخراساني كانت فريدة من نوعها، حتى إنه صدَّق الخرافات التي كان يُرَوِّجها بين الأتباع، وهي الظاهرة التي تُحِيلنا على المثل الفرنسي lorsqu‘on prétend quelques choses on l’aquit (عندما ندَّعي شيئًا نُصدِّقه)، حيث آمن المقَنَّع بهذه الأفكار، وحملها معه إلى قبره.
وهنا يروي إدوارد براون، على لسان ابن الأثير، أن المقَنَّع حين رأى الموت واقعًا لا محالة، جمع نساءه وأسرته، وأعطاهم السم ليشربوه، وأمر أن يُحرق جسده في النار حتى لا يضع أي شخص يده عليه، ويروي آخَرون ان المقَنَّع قال: “كل من يريد أن يذهب معي إلى الجنة فليُلقِ بنفسه معي في هذه النار، ثم ألقى بنفسه في النار مع أسرته وزوجاته وأصحابه المختارين فاحترقوا”.
ومن الأمور التي يجب الانتباه إليها والاستفادة منها، من خلال دراسة حركة “المقَنَّع”، أن المقاربة الأمنية الصرفة في مواجهة التنظيمات الإرهابية بشقَّيها “الجهادي” و”السياسي” تبقى قاصرة وغير كافية، على اعتبار أن القضاء على رأس التنظيم لا يعني -بالضرورة- القضاء على الفكرة التي آمَن بها الآلاف، وهنا نسجل بأن فلول تنظيم المقَنَّع بقيت تنشط لقرون بعدها، وهناك مَن يقول بأن “هذه الجماعة من أصحاب الأرْدِيَة البيضاء، أو أتباع المقَنَّع، قد بقيت على مسرح الوجود حتى القرن الحادي عشر”.
إجمالًا يمكن القول بأن الاستفادة من قصة “المقَنَّع الخراساني” تكمن في سد المنافذ التي قد تتسلَّل منها التنظيمات الدينية-السياسية لتأطير مَن لا حَظَّ لهم في التنمية، وظلوا على هامش المجتمع، أما النقطة الثانية فمرتبطة بتبنِّي مقاربة إستراتيجية متكاملة للقضاء على البيئة المنتجة والمصدِّرة للعناصر المستعدة لأن تكون حطبًا لمثل هاته التنظيمات الانقلابية.