بشهامة الملوك وخلق العظماء

الملك عبدالعزيز طرد الحامية العثمانية من الأحساء من غير أن يريق قطرة دم واحدة

لم يكن استرداد المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود (طيب الله ثراه) للأحساء، استردادًا محقًا لمُلك آبائه وأجداده فحسب، بل تحولًا استراتيجيًّا عميقًا في الصراع بين أبناء الجزيرة العربية والمستعمر العثماني، سمع صداه في الجزيرة العربية كلها، ولعل المدينة المنورة كانت أولى تلك المدن بعد الأحساء، التي انتفضت في وجه المحتل التركي  خلال الفترة من العام (1914- 1918)، بعدما سمعت عن الانتصار المذهل للملك عبدالعزيز على العثمانيين، وبذلك سقطت أسطورتهم وأصبح من الممكن هزيمتهم واستعادة الحرية المغتصبة من المحتل التركي.

كانت الأحساء إقليمًا أصيلًا من أقاليم الدولتين السعوديتين الأولى والثانية، بل كانت عمقًا استراتيجيًّا للدولة، في ظل التغيرات الدولية التي كانت تدور في العالم العربي في تلك المرحلة التاريخية العصيبة، فالإنجليز أصبحوا على شواطئ الخليج العربي، ومن الخطر إبقاء الأحساء لقمة سائغة يمكن أن يحتلوها ذات يوم، والفرنسيون على وشك الدخول إلى الشام، والعثمانيون- الرجل المريض- يتراجعون ويهزمون في كل المعارك السياسية والاقتصادية والسياسية، وتئن دولتهم من وطأة الانهيار السريع، وهي التي لطالما اغتصبت الأراضي العربية، وساومت عليها بل قايضت بها ملكها كما حصل في ليبيا وفلسطين والعراق.

كانت الحامية العثمانية في الأحساء جزءًا من ذلك التمدد، وذراعًا لبطش العثمانيين على سواحل الخليج العربي، ولذلك استرد المؤسس الملك عبدالعزيز الأحساء ليستتب الأمر فيها. ونظرًا لانقطاع التواصل بين الحاميات التركية، ووالي الترك في العراق، تحوّلت الحاميات إلى مكونات عسكرية مجردة هامشية معزولة وسط الصحراء، ليس لها قيمة استراتيجية، خاصة مع وصول الأخبار عن هزائم الدولة المركزية في البلقان وليبيا وأرمينيا وعلى الحدود الروسية، لكن الأتراك كما هم، لا يتغيرون، فقد حاولوا كثيرًا إحداث الفرقة ونشر الفتن بين السكان من حاضرة وبادية، من أجل تفريق كلمتهم، وضمان بقائهم تحت سيطرة المحتل.

كانت الأحساء عمقًا استراتيجيًّا مهمًّا للدولة السعودية في وجه المطامع الاستعمارية سواء من العثمانيين أو الدول الكبرى

لكن ذلك دفع الوضع إلى مزيد من التدهور، فحوّل ذلك أفراد الحاميات التركية إلى شركاء لقطاع الطرق، وأعانوا اللصوص على الغارات، واقتسموا معهم ما سلبوه، وعلى الأرض كان السكان المحليون متململين جدًا، يعانون أشد المعاناة من ذلك الانفلات الأمني، والضرائب المجحفة، وتعسف العثمانيين في تعاملهم معهم، وأضحوا يتوقون للخلاص على يد المؤسس ليعيد إليهم الأمن والأمان ويزيح عنهم الاحتلال البغيض.

قرأ الملك عبدالعزيز المعطيات التي أمامه، والأدوات التي يملكها بعمق ودهاء كبيرين، فوضع خطته الطموحة بناءً على ما يمكن تحقيقه دون مغامرة ولا استعجال، ولكن من خلال بناء عسكري هرمي، معتمدًا على ثلاثة محاور رئيسة.

تحوّل الجنود الأتراك في الأحساء إلى شركاء لقُطَّاع الطرق في سرقة الأهالي كما حاولوا نشر الفتن بين الناس

أولًا: تحييد المتمردين غير الواعين بالتغيرات الكبيرة العميقة على الأرض وتطور القوة العسكرية للملك عبدالعزيز، ولذلك توجه المؤسس بجيشه إلى موقع ماء يسمى العرمة في شمال الرياض فنزل به، بهدف استدعاء المقاتلين غير المنضمين للمشروع الوحدوي نتيجة لقلة الوعي وانعدام المعرفة السياسية، وإبعادهم عن مواجهة تحركاته باتجاه الأحساء.

ثانيًا: استخدام الدهاء في التعامل مع العدو العثماني، فعند اقترابه مع جيشه من الأحساء أرسل إليه المتصرف التركي أحمد نديم، يسأله عن غايته من قدومه إلى هذه الناحية، فأجابه بأنه يريد غزو قومٍ معادين له وأضاف المؤسس رحمه الله: “وأريد شراء الطعام لتموين الجيش”، ولتأكيد الخدعة أرسل بالفعل بعض الرجال فاشتروا كمية من التمر والأرز. لقد كانت خطة محكمة ودهاء عربيًّا لا مثيل له، فالحرب خدعة كما وصفها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان لابد من التخطيط لمعركة مصيرية بمثل هذه التكتيكات التي تصرف نظر المحتل لحين اكتمال الجهد العسكري.

ثالثًا: تمهيد الأرض قبل الدخول من خلال استعادة التحالفات المحلية وولاء العائلات والسكان، ولبناء الثقة معهم أرسل الرسل للعائلات والقبائل التي تحمل الولاء الكامل للمؤسس وآل سعود الكرام قبل وصوله، فقد كانت الأحساء تعاني أشد المعاناة من انفلات الأمن وتصرفات المحتل، وهي تتذكر بكثير من الحنين الأمن الذي سادها في عصر الدولتين السعوديتين السابقتين، وبالفعل استطاع المؤسس بتلك الخطة تسهيل استرداده الأحساء ودخوله دون مخاطرة بالسكان الآمنين.

أما عن أهمية دخول الأحساء فيضعها المؤرخ السعودي عبد الله العثيمين في كتابه تاريخ المملكة العربية السعودية في عدة نقاط:

أولًا: لأنها كانت جزءًا من الدولتين الأولى والثانية، ومن ثم فهو يعيد إقليمًا أصيلًا إلى بلاده.

ثانيًا: أن احتلال العثمانيين عام (1870)، كان بسبب خديعة منهم إذ استغلوا الاضطرابات والخلافات آنئذٍ وتسللوا إلى البلاد السعودية.

ثالثًا: وقف العثمانيون مع خصوم الملك عبدالعزيز، ومن ثم أصبحوا عائقًا أمام تقدمه لاسترداد ملكه وتحرير بلاده.

رابعًا: تلك المنطقة ضرورية لنجد لأنها المنفذ البحري لتجارتها.

خامسًا: أنها غنية بمواردها الزراعية والسمكية، ومُهِمَّة بموانئها البحرية تجاريًّا وجُمْرُكِيًّا.

سادسًا: دخولها تحت رايته تعزيز لقوته أمام خصومه في شمال بلاده وغربها.

وصل المؤسس الملك عبد العزيز إلى الهفوف قاعدة الأحساء الصلبة، وأبقى جزءًا كبيرًا من قواته خارجهًا بحيث يسيطر عليها من الداخل، وتبقى المساندة خارجًا لأي ظرف. وسار  بستمائة من رجاله في اتجاه الحامية التركية، مخترقًا نخيل السيفة، وكانت الخطة المتفق عليها بينه وبين أهالي الأحساء تقتضي أن يتجه الملك عبدالعزيز على رأس جماعة مختارة من الجيش نحو فتحة أعدت سلفًا لدخوله من السور الغربي مما يلي مسجد آل عمير، على أن يتعاقب على إثره دخول رجاله في شكل جماعات صغيرة ومتى استكملوا تواجدهم داخل الكوت، صاروا إلى ثلاث فرق تتخذ الفرقة الأولى مواقعها في أبراج السور، وتتجه الفرقة الثانية لافتتاح بوابة الكوت الشرقية التي تلي السوق، كما تكون الفرقة الثالثة على أُهبة لمهاجمة مقر المتصرف العثماني إذا اقتضت الحاجة.

أرسل الملك عبدالعزيز إثر ذلك قوة من جيشه إلى القطيف، استطاعت أن تدخلها بسهولة دون مصاعب ليسترد القطيف والعقير، وبذلك تم استرداد الأحساء جميعها.

بايع جميع السكان الملك عبدالعزيز على كتاب الله وسنة رسوله، وتعهدوا له بالسمع والطاعة، وفي هذه الأثناء كان أتباع الملك عبدالعزيز قد تمكنوا من السيطرة على كامل الحامية العثمانية. واستسلم القائد العثماني هو وحاميته، طالبًا من الملك عبدالعزيز الأمن له ولأفراد جيشه، فأمّنه الملك الشهم، على أن يخرج بدون أسلحته الثقيلة، وبالفعل أرسل للعقير ومنها للبحرين، ثم إلى بلاده.

  1. أمين الريحاني، تاريخ نجد وملحقاته، ط4 (بيروت: دار الريحاني، 1970).

 

  1. حافظ وهبه، جزيرة العرب في القرن العشرين (د.م: لجنة التأليف والترجمة، 1935).

 

  1. خير الدين الزركلي، شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز، ط3 (بيروت: دار العلم للملايين، 1985).

 

  1. عبد الله العثيمين، تاريخ المملكة العربية السعودية، ط 12 (الرياض: مكتبة العبيكان، 2003).

 

  1. محمد بن عبدالله العبدالقادر الأنصاري، تحفة المستفيد بتاريخ الأحساء في القديم والجديد، ط2 (الرياض: مكتبة المعارف، 1982).

 

  1. مذكرات مدحت باشا، ترجمة: يوسف كمال حتاته (القاهرة: المطبعة الهنديّة، 1913).