حتمية الجغرافيا

جعلت العراق ميدانًا للصراع بين القوميتين الفارسية والتركية

يؤكد لنا التاريخ أن الجغرافيا تُعد أحيانًا نعمة، وأخرى نقمة بالنسبة لبعض البلدان، ويعتبر العراق نموذجًا في ذلك؛ إذ عانت بلاد الرافدين -دجلة والفرات- كثيرًا من جرَّاء محاولة مدِّ النفوذ الفارسي والتركي، وذلك على مرِّ التاريخ.

مطلع القرن السادس عشر شهد تطورًا خطيرًا في بلاد فارس؛ إذ استولى على الحكم الشاه إسماعيل الصفوي الذي أسَّس الدولة الصفوية، في محاولة منه لإعادة مجد فارس القديم قبل ظهور الإسلام، لكن الحدث الجَلَل في هذا الأمر هو ربط الشاه إسماعيل بين الإمامة والحكم، وابتداع ولاية الفقيه، كما فرض المذهب الاثنى عشري لأول مرة مذهبًا رسميًّا لفارس، ولم يكن هذا الأمر طواعيةً، بل في حقيقة الأمر تم فرضه بالقوة، وأعلن الشاه إسماعيل أن الدولة الصفوية هي حامية المذهب ومن ينتمون إليه في كافة أرجاء العالم الإسلامي، وما ترتَّب على ذلك من عدم احترامه للحدود السياسية لدول الجوار، وبالتالي حتمية الصدام المسلح مع قوى إسلامية أخرى.

من هنا بدأ الشاه إسماعيل الصفوي يتطلَّع إلى غزو العراق، يدفعه إلى ذلك ما أشرنا إليه سابقًا من أطماع فارس القديمة في العراق بحكم موقعه الجغرافي وخصوبة أراضيه، وبالإضافة إلى العامل الاقتصادي، والعامل المذهبي؛ فحينما أعلن الصفويون رعايتهم للمذهب وحمايته تطلَّع الشاه إسماعيل إلى ضم العراق حتى يضع تحت يدَيه المزارات المقدَّسة، هذه المزارات التي يأتي إليها الشيعة من كافة بقاع العالم الإسلامي، وبذلك تفرض الدولة الصفوية نفوذها المذهبي على العالم الشيعي.

استغلَّ الشاه حالة الضعف التي كان يعاني منها العراق منذ غزو المغول وسقوط بغداد عام  (1258)، وحالة الصراع وعدم الاستقرار التي عاشها العراق تحت حكم العديد من الأسر الحاكمة، وبالفعل قام الصفوي بغزو العراق عام (1508)، وأسقط بغداد، ولم يتوانَ عن ارتكاب الجرائم البشعة التي ارتكبَها عند دخوله إلى بغداد، ويصف: “دخل الجيش الإيراني بغداد، وكان من الأعمال الأولى للفاتحين الجدد -الصفويين- ذبح أئمة السنة الموجودين، وهدم مقابر الغابرين منهم”، ولم يكتفِ الشاه إسماعيل بالجرم الذي ارتكبه، وإنما عمل على صبغ العراق كله بالصبغة المذهبية بحَدِّ السيف، وفتح بذلك باب الفتنة المذهبية بين السنة والشيعة في العراق.

وعودةً إلى الحتمية الجغرافية فإن سيطرة فارس على العراق كانت دائمًا تُقلِق مَن يحكم آسيا الصغرى، ويرجع ذلك إلى ثراء العراق الاقتصادي، ومن ناحية أخرى فإن سيطرة الصفويين على العراق، أدَّت إلى إيجاد نقاط تماسٍّ على الحدود مع الدولة العثمانية، وبالتالي أصبح هناك نطاق صراع، خاصة في مناطق كردستان العراق المجاورة لأملاك الدولة العثمانية.

وفي الحقيقة لم تكن العوامل الجيواستراتيجية هي الوحيدة في نشأة الصراع الصفوي- العثماني على العراق، وإنما تدخل العامل المذهبي ليزيد من حدة الصراع على العراق بين الصفويين والعثمانيين، فإذا كان الصفويون قد أعلَنوا أنفسهم حُماة المذهب الشيعي في العالم الإسلامي فإن العثمانيين -ومع فتوحاتهم في أوروبا- تطلَّعوا إلى إعلان أنفسهم حُماةَ العالم السُّني، وشجَّعَت المذبحة الرهيبة التي ارتكبها الصفوي عند دخوله بغداد في حَقِّ السُّنة، العثمانيين على التدخل في العراق، بحُجَّة حماية السُّنة، وهذا الأمر زادَ حدة الصراع المذهبي بين الشيعة والسنة في العراق.

من ناحية أخرى خَشِي العثمانيون من نجاح الصفويين في صبغ العراق بالصبغة الشيعية، وأيضًا من سيطرتهم على “العتبات المقدَّسة” في النجف وكربلاء؛ لأن ذلك سيرفع من شأن الصفويين في العالم الشيعي، وهنا لا بُدَّ من الإشارة إلى الوجود الشيعي من رعايا الدولة العثمانية في الأناضول، وبالتالي خشية العثمانيين من امتداد نفوذ الصفويين على شيعة الأناضول، والأكثر من ذلك أن ورقة السماح لشيعة الأناضول بزيارة العتبات المقدسة في العراق أصبحت في يد الصفويين.

وهناك نقطة شائكة في هذا الصدد، وهي تأثير التشيُّع على الدولة العثمانية نفسها، خاصة في مرحلة البدايات، حتى قال البعض: “إن الدولة العثمانية في سنوات قيامها وحتى عهد السلطان سليم الأول كانت مرتبطة بالعادات والتقاليد البكتاشية والعلوية”، وهو ما حاوَل بعض المؤرِّخين الأتراك نَفيَه.

وفي الحقيقة كان دخول الصفويين إلى العراق خطرًا؛ نظرًا لتأثيرهم على الطائفة العلوية في الأناضول، يُضاف إلى ذلك النفوذ الروحي للبكتاشية على الإنكشارية، وهم عصب الجيش العثماني، وعندما اعتلى سليم الأول العثماني العرش في عام (1512) كانت من أولى مهامِّه الزحف لإنقاذ الأناضول من التأثير الصفوي، ثم دخول العراق وإخراج الصفويين منه.

وعندما غزا الصفويون العراق مرة أخرى في عام (1530) حرص السلطان سليمان القانوني على إعادة احتلال العثمانيين للعراق، وبالفعل دخل العثمانيون إلى بغداد في عام (1534). ونستطيع أن نرصد ملامح الاختراق المذهبي للعراق، والصراع بين الصفويين والعثمانيين على شيعة وسُنَّة العراق من خلال تتبُّع العلاقات الصفوية العثمانية وميدان الصراع بينهما.

وحتى تَسحَب السلطات العثمانية ورقة المزارات والعتبات المقدَّسة من يد الصفويين، وتحرمهم من نفوذهم الروحي على الشيعة في بقاع العالم الإسلامي، اهتمَّ العثمانيون بالإشراف على تنظيم الزيارة إلى هذه المزارات المقدسة للصوفية، ورفعوا من شأنها واهتموا بها.

وفي القرن الثامن عشر استغلَّ العثمانيون ورقة السيطرة على المزارات المقدسة- النجف وكربلاء- في جنوب العراق كورقة ضغط على فارس في السماح أو عدم السماح لشيعة فارس بالزيارة.

ويلخِّص البعض كيف تدهورت الأمور في القرن الثامن عشر، وأصبحت الورقة المذهبية لعبةً بين فارس والدولة العثمانية على النحو التالي: “كانت فارس كلما أحسَّت بقوتها تطلَّعت إلى سهول العراق، وإلى ضمِّ كردستان إليها، وإلى إرضاء شيعة فارس بالاستحواذ على العتبات المقدسة، وتخليص حجاج العتبات المقدسة من الضرائب الباهظة التي كانت تُفرض عليهم، ومن المعاملة السيئة التي كانوا يتعرَّضون لها من جانب السلطات العثمانية في العراق”.

هكذا أدَّى الصراع الاستعماري بين الصفويين والعثمانيين من أجل السيطرة على العراق إلى تأزيم الوضع المذهبي بين السُّنة والشيعة.

أدَّى الصراع الاستعماري بين الصفويين والعثمانيين من أجل السيطرة على العراق إلى تأزيم الوضع المذهبي.

  1. أحمد آق كوندز، سعيد أوزتورك، الدولة العثمانية المجهولة (إسطنبول: وقف البحوث العلمية، 2008).

 

  1. بديع جمعة، أحمد الخولي، تاريخ الصفويين وحضارتهم (القاهرة: دار الرائد العربي، 1976).

 

  1. عبد العزيز نوار، داود باشا والي بغداد (القاهرة: دار الكاتب العربي، 1967).

 

  1. عبد العزيز نوار، تاريخ العراق الحديث من نهاية حكم داود باشا إلى نهاية حُكم مدحت باشا. (القاهرة: دار الكاتب العربي، 1968).

التعاطي التركي والفارسي

مع العالم العربي

الصراع الفارسي العثماني على العالم العربي

تمتد العلاقات بين الإمبراطوريات الفارسية والعثمانية إلى القرون الوسطى، وتحديدًا إلى بدايات القرن السادس عشر، أثناء فترة حكم الدولة الصفوية في إيران، والإمبراطورية العثمانية في الأناضول وأجزاء من أوروبا، وكانت العلاقات بين البلدين في بداياتها سلبية بشكل كبير، ولم يتَّفِقَا إلا في الصراع على العالم العربي، فقد كان لقمة سائغة لكل من أراد السيطرة على طرق التجارة والمواد الخام، فاندلع على أثر ذلك التنافس والصراع بين الإمبراطوريتين على النفوذ والسيطرة على الموارد التي تتمتع بها الدول العربية.

تاريخ الصراع

في العام (1501) دشَّن الشاه إسماعيل الأول حملة سريعة ضد العثمانيين في شرق الأناضول، بعد فشله في التوصل إلى اتفاق معهم، وعاد إلى إيران، وسعى في الفترة اللاحقة لتوسيع نفوذه عبر منطقة الخليج العربي والجزيرة العربية.

وفي الوقت نفسه سعى العثمانيون للتوسع جنوبًا باتجاه العراق وسوريا، ليس حبًّا في العرب، ولكن لأن نفوذهم الغربي بدأ بالانحسار، ومعظم ممالكهم داخل الغرب بدأت في السقوط، بعد تلقِّيهم خسائر فادحة على أيدي الفرنسيين والإسبان، ولذلك قرَّر سليم الأول تغيير اتجاه النفوذ التركي العثماني باتجاه الفضاء العربي، وهو ما مدَّ في عمر الإمبراطورية العثمانية 400 عام أخرى.

وبدأ نفوذ الأتراك يتعاظَم في العالم العربي بعدما احتلوا التركة المملوكية، كانت العلاقة بين الدولتين العثمانية والمملوكية في بداياتها علاقة تحالُف، ويظهر ذلك في اشتراك الأسطولَين العثماني والمملوكي في حرب البرتغاليين، لكن الخلافات بدأت تطفو على السطح مع بدء المواجهة بين السلطان سليم والشاه إسماعيل الصفوي سلطان فارس، حيث سعى كل منهما للتحالف مع المماليك لمواجهة الطرف الآخر.

تأثير الصراع على المنطقة

كان للصراع بين الإمبراطورية الفارسية والعثمانية تأثير كبير على المنطقة، فضلًا عن الحروب العسكرية المدمرة، وتسبَّب الصراع في تبادُل التحالفات مع أعداء العرب للسيطرة عليهم، ونتيجة لذلك قلَّص الصراع الفارسي العثماني من النفوذ العربي والإسلامي في المنطقة والعالم لقرون تالية حتى العام (1914).

في المقابل اعتمد الفرس والعثمانيون علاقات أقل ما توصف بالبراجماتية مع القوى الأوروبية، ما أدى فعليًّا إلى سرعة سقوط العالم العربي في أيدي الاستعمار الأوروبي لاحقًا، ليتقاسم البريطانيون والفرنسيون تركتي الاحتلال الفارسي والعثماني.

تقاسُم الفرس والأتراك التحالفات

لم تؤخذ  مصالح العالم العربي وشعوبه في اعتبار الفرس والعثمانيين أبدًا، بل كانوا هدفًا وجائزة يحاول الجميع اقتناصها، ففي تلك الفترة من القرن الخامس عشر والسادس عشر وما تلاها كان يعيش العالم العربي واحدة من أسوأ فصوله، من حيث التردِّي الحضاري والعزلة الإنسانية، والانكفاء داخل محيطه، فالأندلسيون هُجِّروا من ديارهم، والعباسيون سقطوا، ولم تقم سوى دويلات متفرقة متصارعة في كثير من الأقاليم العربية، ولم تحظَ شعوبه بدولة مركزية متمكنة قادرة على إدارة شؤونه وتحقيق أحلامه، والدفاع عن حياضه، وكان العنصر الأعجمي هو المسيطر والمهيمن، من الأيوبيين إلى المماليك، وأخيرًا العثمانيون والفرس، ما نتج عنه تأخُّر البلدان  والشعوب العربية كثيرًا عن ركب الحضارة.

خدَموا الأعداء لتحقيق مصالحهم القومية الإمبراطورية: الفرس والترك.

تحالف الصفويون مع البرتغاليين والإسبان، ثم الإنجليز؛ نكايةً في الدولة العثمانية، واستقواءً على العرب فيما بعد، وأيضًا لتنشيط التجارة الفارسية مع العالم الغربي، في المقابل عقدت الدولة العثمانية اتفاقيات مع الدول الأوروبية، عُرِفَت بالامتيازات الأجنبية، من أجل تنشيط التجارة العثمانية مع الغرب، لكن هذه السياسة من جانب كلٍّ من فارس والدولة العثمانية أحدثت سيولة هائلة في العالم العربي، وفتحت أجواءه على مصراعَيه أمام القوى الاستعمارية.

احتلال انتقائي وتحالفات غريبة

مارَسَ العثمانيون والفرس انتقائية لافتة في علاقاتهم مع العالم العربي، فبينما سمح العثمانيون بسقوط الأندلس العربية بيد الإسبان غربًا، احتلوا بلدانًا عربية أخرى في الشام ومصر وليبيا وتونس والجزائر، وصولًا إلى المغرب العربي، وأخضعوها لنفوذهم، ولم يُفكِّروا يومًا في استرداد الأندلس، أو دعم أهلها المهجَّرين عنوةً، بالرغم من أنها لا تبعد عن الأراضي العربية إلا بضع مئات من الأمتار، إلا أن تحالفهم مع الإسبان كان مفضَّلًا لديهم أكثر من الأندلس.

كذلك الفرس الصفويون وجدوا أن البرتغاليين الذين يحاولون باستماتة اقتلاع الإسلام، وقصف مكة واحتلال الديار المقدسة، مقبولًا لديهم؛ لأن البرتغاليين في تلك الفترة كانوا أسياد البحار، ولديهم أقوى أسطول بحري.

القومية الفارسية والعثمانية

لقد قَبِل الصفويون والعثمانيون أن يكبرَا بجانب القوى العظمى المسيحية حينها – البرتغاليون، والإسبان، والفرنسيين، على حساب العالم العربي، كانت القومية الصفوية أهم من العرب المسلمين، وكان ذلك واضحًا في التخادُم الذي شهده الخليج العربي بين الصفويين والبرتغاليين، وفي البحر الأبيض المتوسط، بين العثمانيين والإسبان والفرنسيين.

تفاعل التحالفات العثمانية

أولًا: التنسيق الفرنسي العثماني مع قوات خير الدين باربروسا –قائد الأسطول العثماني- في مواجهة إسبانيا، وفي الوقت نفسه يتم تفويض باربروسا باحتلال ليبيا وتونس والجزائر.

ثانيًا: نتج عنها تحالُف طرف مسلم قوي –العثماني– مع طرف غير مسلم –الفرنسي- لمواجهة طرف مسلم غير قوي؛ الليبيين والتونسيين والجزائريين.

الصفويون من حلفاء إلى خدم للأسطول البرتغالي

بدلًا من التصدِّي للأطماع البرتغالية التي هدفت لاستئصال الإسلام وتدمير أقدس مقدَّساته، انخرط الصفويون في خدمة الأسطول البرتغالي وحمايته، فقد حاكوا المؤامرات، وأحدثوا القلاقل والفتن، وشغلوا العرب في حروب ليس لها من مبرِّر.

لقد كان أكثر ما يحرك العثمانيين والصفويين هو التجارة، والبحث عن مصادر، وتعظيم الحركة التجارية، وتأمين طرق الملاحة، وهو نفسه ما حرَّك التحالفات بينهم وبين البرتغاليين والإسبان والفرنسيين، فقد كان الغرب يفكر هو كذلك بنفس الطريقة، وكان العالم العربي بموقعه الجغرافي المهم يتوسط طرق الملاحة، ولذلك اتفق الجميع على السيطرة والهيمنة عليه، إما بالاحتلال المباشر كما فعل العثمانيون، أو بالاحتلال وبتسهيله للآخرين كما فعل الصفويون في الأحواز على سبيل المثال، وإعطاء البرتغاليين امتيازات وقواعد بحرية في الخليج العربي.

  1. بديع جمعة، أحمد الخولي، تاريخ الصفويين وحضارتهم (القاهرة: دار الرائد العربي، 1976).

 

  1. محمد وصفي، التفاعل بين الإسلام والمسيحية في إيران (بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، د.ت).

 

  1. نادية مصطفى، العصر العثماني من القوة والهيمنة إلى بداية المسألة الشرقية (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996).
تشغيل الفيديو

الفرس والترك:

تفاهُمات ثنائية على اقتسام الكعكة العربية

الصراع الفارسي-التركي كانت تفرضه بعض الحسابات الإقليمية، ولم تكن تؤجِّجه النعرات العِرقية أو الحسابات التاريخية، وفشل سياسات التوسع الفارسية-التركية نحو الشرق والغرب دفع القوتَين إلى اختيار المنطقة العربية والإسلامية كفضاء حيوي للتوسع والتمدد تاريخيًّا.

في هذا السياق كان المعطى العِرقي نقطة التقاء الأطماع التركية-الفارسية تجاه العرب، وهو ما جعل الطرفين يعملان على توسيع نفوذهما على حساب العرب أولًا، ثم تفادِي ما أمكن الصدام المباشر بين القوتين، وهو ما يقطع بوجود تفاهمات و”طبخات” بين الطرفَين لم تكن في معظمها علنية، وإنما كانت سرية.

لقد اعتبر الفرس والترك أن العرب هم الحلقة الأضعف في المنطقة، وبالتالي قاموا بالقفز على المُعطَى الديني انتصارًا للعقيدة العِرقية، وهنا نسجِّل بأن “تاريخ العلاقات بين هاتَين القوتين (الأتراك والفرس) والعالم العربي تاريخ طويل، فيه كثير من الصراعات والتحالفات، خصوصًا أن مظلَّة الإسلام الحنيف تغطي هاتين الدولتين والدول العربية أيضًا، وقد يتصوَّر البعض أن الدين المشترك يؤدي إلى تفاهم أكثر، وليس ذلك دقيقًا؛ لأنه يفتح الباب لاندماج أوسع وتنافس أشد”.

إن العطف على ما قاله الدبلوماسي المصري مصطفى الفقي يقطع بأن الانتماء الديني ورابطة الإسلام لم تكن رادعًا للأتراك والفرس للنظر من زاوية الأخوة في الدين تجاه العرب، لذلك تغلَّبت النعرة العِرقية على الولاء للنص الديني الذي يُحرِّم الهجوم أو الاستيلاء على أراضٍ عربية مسلمة خارج منظومة البغي، والتي تعطي الحق للمسلم للدفاع عن نفسه حتى في مواجهة مسلم آخر (إخواننا بغوا علينا).

وإذا كانت المواجهات التركية الفارسية ثابتة ومُوثَّقة، فإنها وقعت نتيجةً لاعتبارات جيوستراتيجية مرحلية، والثابت أيضًا أن كليهما لم يكن يريد القضاء على الآخر قضاءً مُبرَمًا، بل كان التنافس فقط على الأراضي العربية، وليس على أراضي كلٍّ منهم، وهنا تقطع الحوادث والشواهد بأن الأتراك والفرس استخدموا المنطقة العربية كأرض معركة وصراع نفوذ فقط، والنتيجة مئات الآلاف من الضحايا.

الرابطة الدينية مع العرب لم تكن رادعًا أمام الطموحات التوسعية الفارسية - التركية.

لقد أسهم نجاح أتاتورك في تأسيس “تركيا الحديثة” إلى دخول القوتين الإقليميتين في مرحلة من التهدئة، إن لم نقل التنسيق، ولو في الحد الأدنى، وهنا نسجِّل أنه ومنذ سنة (1923) “توقف الصراع المبني على الأساس المذهبي الذي كان حُجة الحروب التاريخية بين الدولتين، بل على العكس، كان شاه إيران رضا بهلوي يعتبر “أتاتورك” مثالًا يُحتذى به في السعي نحو العلمانية والعلاقة بالغرب، وتحديثه “لإيران الصفوية” الغارقة في أوهامها المذهبية”.

إن دراسة التعبيرات السلوكية لكل من إيران وتركيا تقطع بأن التحالف بينهما فرضته معطيات تاريخية وأخرى جيوستراتيجية، خاصة الوضع في سوريا، والتحدي الكردي الذي ينشط في أماكن شاسعة تخضع “للإدارة” التركية والفارسية، في ظل الإشارات القوية التي أرسلتها واشنطن بضرورة قيام كيان كردي متحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية.

إن ما يميِّز السياستين التركية والإيرانية هو استمرار الخيط الناظم في محاولة تفجير الأنظمة العربية من الداخل، ثم الركوب على حالة التوحش وإدارتها، وصولًا إلى تأسيس كيانات تابعة أيديولوجيًّا لتنظيمات الإسلام السياسي، وسياسيًّا لأنقرة أو طهران.

ولعل التحليل الإستراتيجي للبيئة الحاضنة للتدافع الفارسي-التركي من جهة والدول العربية من جهة أخرى يجعلنا أمام مقاربتَين مختلفتَين، وتوجدان على طرفَي النقيض، فمن جهة هناك الطموحات الفارسية-التركية التي لا زالت تعاني من ترسُّبات عرقية انعكست على بنية الحكم، وبالتالي على الاختيارات السياسية لهاتين القوتين، وهو ما جعلها حبيسة أطماعها التوسعية الناعمة والخشنة، وبين مقاربة عربية اختمرت لديها مفاهيم الدولة-الوطنية، وتشبَّعَت بقِيَم السيادة، وبالتالي تبحث على فضاء إقليمي مستقر يساعد على تحقيق رؤيتها الإستراتيجية على المدى المتوسط والبعيد.

إن التاريخ، قديمه وحديثه، يقطع بأن العرب لم يكونوا يومًا أداة لتقسيم دول الجوار، سواء أكانوا فُرسًا أم أتراكًا، بينما الفرس والأتراك، باختلاف الأدوار والحِقَب، غرقوا في قلب مشاريع التقسيم وإضعاف الدول العربية، معتمدين في ذلك على بعض التنظيمات التي تتماهى أيديولوجيًّا مع أنقرة وطهران، والتي لها أطماع وأحلام “تمكينية”، ولو “تحت الوصاية” التركية أو الفارسية، ولذلك نرى بأن ضمانات الأمن القومي لدول الخليج العربي تنطلِق من تنقية البيئة الداخلية من الامتدادات التركية والإيرانية، عبر تحيِيد التنظيمات الفوق ترابية، التي لا زالت تكفر بفكرة الحدود والأوطان.

إن التغيرات الجيوستراتيجية التي تعيشها المنطقة، قد تكون لها انعكاسات إيجابية إذا ما اقتنعت إيران وتركيا بالتصور العربي الذي يرى في “حسن النية” و”التعاون الوثيق” و”القطع مع عصبيات الجاهلية” مداخل أساسية لتأسيس بيئة إستراتيجية جديدة.. بيئة هادئة، مستقرة ومتعاونة.

  1. مصطفى الفقي: “التنافس الصامت بين إيران وتركيا على العالم العربي”، مقالة نُشرت على موقع “إندبندنت” بالعربي على الرابط: https://www.independentarabia.com/node/178326

 

  1. حميدة بالسعد، “المنطقة العربية بين مطرقة الشمس الإيرانية والقمر التركي”، مقالة نُشرت على موقع العرب 21 على الرابط: https://arabi21.com/story/900077/