إيران وتركيا

تأسَّسَتَا على فكر متطرف ضد القوميات الموازية

هناك ظاهرة مهمة تلفت انتباه من يتتبَّع التاريخ الحديث لكل من إيران وتركيا، وصولًا إلى الوضع الحاضر، وهي أوضاع الأقليات في إيران وتركيا، التي يعتبرها جُلُّ الباحثين كعب أخيل في تكوين الدولة الحديثة في كل من البلدين.

وربما يرجع ذلك إلى حقيقة تاريخية، وهي أن الدولة الحديثة في كلا البلدين قامت على أنقاض النظام “الإمبراطوري”، سواءٌ الفارسي في إيران، أو العثماني في تركيا؛ إذ يرجع تكون إيران وتركيا بالشكل الذي نراه الآن إلى عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وبينما كان العالم يرفع مبدأ حق تقرير المصير، وحين دعت عصبة الأمم إلى احترام القوميات، وحق كل شعب في تقرير مصيره، قامت كل من إيران وتركيا على عكس ذلك، وبشكل مخالف لحركة التاريخ.

إذ شهدت إيران ما بعد الحرب العالمية الأولى صعود الضابط المغامر رضا بهلوي (1925)، الذي سرعان ما تولى وزارة الحربية، ثم في خطوة غريبة نصب نفسه “شاه إيران”، وتبنَّى رضا بهلوي القومية الفارسية المتطرفة، التي هي في حقيقة الأمر تطوُّر أكثر راديكالية للمشروع السياسي الصفوي.

لم تردع "عصبة الأمم" أعقاب الحرب العالمية الأولى كلًّا من إيران وتركيا من ممارسة العنف ضد القوميات الأخرى.

من هنا لجأ رضا بهلوي إلى سياسة قمع الأقليات من أجل تحقيق مشروعه السياسي، ورفض بشدة حق تقرير المصير لهذه الأقليات، أو حتى حق الحكم الذاتي، هكذا قام رضا بهلوي بقمع كل حركات الأقليات في إيران، لا سيما الأقليات العرقية مثل اللر والبختيار والتركمان والبلوش، وأخيرًا استولى على إمارة المحمرة “عربستان” العربية، وضَمَّها إلى طهران، وهكذا قامت إيران الحديثة على سياسة قمع العرقيات غير الفارسية.

لم تنجح السياسة القمعية في عهد الشاه في إنهاء مشاكل الأقليات العرقية والدينية واللغوية، ولا حتى فرض القومية واللغة الفارسية في إطار سياسة تفريس إيران؛ إذ تذكر الدراسات التاريخية حال إيران عند قيام ما يسمى بالثورة الإسلامية في عام (1979)، موضحة التعددية الدينية بين أغلبية شيعية وأقليات سُنِّية ومسيحية ويهودية وزرادشتية.

وعلى المستوى اللغوي لم يكن يتحدث اللغة الفارسية كلغةٍ أُمٍّ سوى 50,2% من مجموع سكان إيران، بينما تتعدَّد اللغات الأخرى، سواء كانت أذربيجانية تركية، أو غيلانية أو كردية وعربية، كما تعاني الأقليات العِرقية في إيران من سيطرة العنصر الفارسي على مقاليد الأمور، على الرغم من أن أعداد الفرس في عام (1979) لم تكن تتجاوز 16,5 مليون نسمة، أي أقل قليلًا من نصف عدد السكان، بينما يصل عدد التركمان إلى 12 مليون نسمة، والأكراد إلى 3,5 مليون نسمة، والعرب إلى 2 مليون نسمة، والبلوش حوالي نصف مليون نسمة.

استمرت سياسة “تفريس” المجتمع الإيراني واضطهاد الأقليات في العهد الجمهوري أيضًا، بل ازداد قمع الأقليات بشدة، مع وصفها بالعمالة للخارج، والعمل ضد دستور الجمهورية الإسلامية، ويكفي للدلالة على ذلك الإشارة إلى أحدث تقارير المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان؛ إذ يشير تقرير منظمة أمنيستي لعام (2023) بشأن حقوق الإنسان في إيران إلى “موجة مروعة من عمليات الإعدام تنال الأقليات العِرقية المضطهدة، مع تصعيد استخدام عقوبة الإعدام ضدها”.

كما أدانَ تقرير آخر لحقوق الإنسان أوضاع الأقليات في إيران: “تُميز الحكومة ضد الأقليات الدينية الأخرى بما فيهم المسلمون السُّنة، وتقيد الأنشطة الثقافية والسياسية للأقليات العرقية مثل الأذرية والكردية والعربية والبلوشية في البلاد”.

ولا يختلف الوضع كثيرًا في الحالة التركية؛ إذ أقام مصطفى كمال أتاتورك تركيا الحديثة على أنقاض الدولة العثمانية في أكتوبر (1923)، بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى بخمس سنوات، وهنا أيضًا لم يحترم أتاتورك المبدأ الدولي السائد آنذاك، وهو حق الشعوب في تقرير مصيرها، وأصَرَّ على سياسة “التتريك”، في محاولة لإذابة الأقليات المتعددة داخل تركيا الحديثة؛ إذ تتعدد الأقليات العرقية، لا سيما الكردية والعربية، هذا فضلًا عن التعددية الدينية والمذهبية من سُنَّة وعلويين ومسيحيين ويهود، وكما فعل رضا بهلوي في إيران في إحياء القومية الفارسية المتطرفة التي لا تحترم حقوق الأقليات، قام أتاتورك بتبنِّي القومية التركية الطورانية، وفرضها في كل أنحاء تركيا، دون مراعاة لأوضاع الأقليات.

المثير هو النص على ذلك في الدستور التركي؛ إذ ينص الدستور على أنه: “لا يجوز حماية أي فكر أو عمل يتعارض مع القومية الأتاتوركية”، وبالتالي إذا لم يلتزم أي مواطن في تركيا بالكمالية كقومية فإنه لن يتمتَّع بالحماية التي ينص عليها الدستور، كما نصَّت المادة الثانية من الدستور على وصف الجمهورية التركية “بالموالية لقومية أتاتورك”.

وفي مراجعة تركية مهمة لهذه المسألة يرى البعض “أنه من أجل إقامة أمة متجانسة كما تصوَّرها الكماليون قامت الدولة التركية بقمع العرقيات المختلفة، ومن بينهم الأكراد تحت غطاء القومية التركية، وتعرَّضَت الجماعات الدينية الإسلامية لسياسات القمع والإقصاء، كذلك واجَهَ أصحاب الديانات الأخرى مذابح، حيث كانوا في أعين الكماليين مواطنين شكليًّا فقط، لقد وُضِعت علاقة النظام الكمالي مع الناس من مختلف الأعراق والأديان والثقافات الدولة والنخبة الكمالية الموالية لها في مواجهة مع المجتمع”.

والمثير للانتباه هو استخدام ورقة الأقليات في الانتخابات التركية، والصراع بين الرئيس التركي الحالي طيب رجب أردوغان والمعارضة، وقد برز ذلك في الانتخابات التركية التي أعقبت أحداث ما عُرِف بالربيع العربي؛ إذ تَوَجَّس أردوغان خِيفةً من الكتلة التصويتية للأكراد التي تبلغ نسبتهم حوالي 20% من سكان تركيا، وهي كتلة لا تصوِّت له، كذلك الكتلة التصويتية للطائفة العلوية، حيث يُقدَّر عددهم في مطلع القرن الحادي والعشرين بحوالي 15 مليون علوي.

ووصل الأمر بالرئيس التركي إلى اتهامه زعيم حزب الشعب المعارض كمال كليتشدار أوغلو بأنه يدعم العلويين والكيانات السياسية المشابهة لهم، بل والأكثر من ذلك شن هجومًا عنيفًا على الأكراد والعلويين في تركيا، واتهمهم أنهم أضحَوا عُرضةً لتضليل الأنظمة السياسية المعادية.

هكذا تأسَّسَت كل من إيران الحديثة وتركيا الحديثة على فِكر قومي متطرف، لم يحترم حقوق الأقليات، ولا يزال حتى الآن في حالة صدام معها.

  1. إحسان داغي، لماذا تحتاج تركيا إلى نظام ما بعد الكمالية، دورية رؤية تركية، شتاء 2012.

 

  1. التقرير العالمي 2023 Human Rights Watch.

 

  1. فرح صابر، رضا شاه بهلوي: التطورات السياسية في إيران 1918- 1939 (السليمانية: منشورات مركز كردستان، 2013).

 

  1. علي محافظة، إيران بين القومية الفارسية والثورة الإسلامية (عمان: المؤسسة العربية، 2013).

 

  1. موريال ميراك-فايسباخ، جمال يواكيم، السياسة الخارجية التركية تجاه القوى العظمى والبلاد العربية منذ العام 2002 (بيروت: شركة المطبوعات، 2014).

بين الضرورة والمصلحة

التحالفات الخفية للترك والفرس ضد العرب

الفرس والأتراك.. تحالُف ضرورة أم تَحالُف مصالح

هل التحالف التركي الإيراني تحالُف ضرورة يمكن له أن ينتهي بانتهاء الضرورات السياسية والأمنية التي أدَّت إليه كما يتصور بعض المراقبين؟

الأكيد أنه لن ينتهي التحالف التركي الإيراني إلا بانتهاء الثقافة العربية وتحجيمها، وإعادتها إلى ما قبل ألفَي عام، هذا أمر لا مبالغة فيه، فكل المؤشرات على الأرض تقول: إن هدف الأتراك والفرس هو القضاء على العرب ثقافةً وتاريخًا وإسلامًا عربيًّا.

إنها قراءة في تفاصيل متطرفة لعلاقة أزلية بين العرب والعجم، تطرُّف الجانب الأعجمي ممن يعيشون على تخوم العرب، بل إن الأحداث التي شهدتها المنطقة بين الفرس والعرب لأكثر من ألفَي عام، والعرب والأتراك لأكثر من ألف عام، تؤكد ذلك، حروب ومحاولات احتلال، بل واحتلال فعلي للأراضي يصاحبه احتلال مذهبي وثقافي.

التاريخ لا يكذب:

تاريخ هذه المنطقة الممتدة من خرسان شرقًا الى إسطنبول غربًا، ومن أرمينيا شمالًا إلى الصومال جنوبًا، يؤكد أن التنافس والتنافر الثقافي والعلمي والإعلامي، وأخيرًا السياسي، لا يدفع ثمنه الغالي إلا العرب، وفي هذا الإطار تَشكَّل التحالف التركي الإيراني بهدف تعظيم الثقافتين التركية والإيرانية على حساب العربية، حتى لو أدَّى ذلك لهدم كل ما هو عربي؛ إنسانًا كان أو حجرًا، ولعل حادثة سفر برلك التي قام بها فخري باشا بمحاولة سرقة الجسد الطاهر للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، يُقابِلها تحالف الصفويين الفرس مع البرتغاليين لتدمير مكة والمدينة؛ خير دليل على محاولاتهم التجريف الثقافي للعرب.

المشروعان الفارسي والإيراني يرى أن العرب لا يستحقون الإسلام ولا النبي ولا الأماكن المقدسة، والإيرانيون الصفويون حاولوا تغيير ثقافة الإسلام التي لا تضع مقدسًا غير مكة والمدينة والمشاعر –منى وعرفات ومزدلفة- من خلال بناء مراقد مقدسة في إيران والعراق -التي يعبرونها منطقة نفوذ عقدي وتاريخي-، وحوَّلُوها إلى محَجٍّ، والأتراك فعلوا شبيهًا بذلك بسرقة النفائس النبوية وترحيلها الى إسطنبول، إضافة إلى سرقة أجزاء من الحجر الأسود ووضعها على قبور السلاطين وبعض الجوامع، كما حاولوا نقل جسد النبي؛ لأن فكرة تحويل المقدس من جزيرة العرب إلى بلادهم هي ما يُحرِّك المخططات والسياسات.

يقول الدكتور عبد الحفيظ محبوب في كتابه (الدور السعودي في مواجهة النفوذين الإيراني والتركي في المنطقة): “تتعرض المنطقة العربية اليوم إلى تفتيت وتجزئة الإسلام من دين أممي إلى طوائف ومذاهب تحت تأثير عنصري إقليمي بقيادة إيران”.

في المقابل يوجد أيضًا دور تركي يحاول تفتيت المنطقة واختطافها بالتعاون مع إيران، وتبادل الأدوار، وأحيانًا تبادل الاتهامات المتفق عليها واقتسام النتائج، فالظاهر أنهما عدوتان لدودتان، ولكن في واقع الشواهد التاريخية تبيَّن ما يُكِنُّه كلا الطرفين لبعضهما من الاحترام والود، المبني على الإرث التاريخي الذي يسوقانه ويعتبرانه متفوقًا على التراث العربي.

العلاقة التاريخية بين السلاطين العثمانيين والصفويين:

رغم التنافس بين الفرس والترك، إلا أنه لم يكن تنافرًا أو إلغاء وجود، بل كانت العلاقة بينهما تقوم على الاحترام، والحفاظ على المساحات، واقتسام المنطقة العربية، دون اقتلاع لأي منهما، وحتى الصدامات التي حصلت كانت جراحية ومحدودة.

ويمكن فهم العلاقة أكثر من خلال المراسلات التي حصلت بين السلاطين العثمانيين والصفويين، فعبارات التبجيل والتقدير تفوق درجة المجاملات السياسية، بل تدل على علاقة وتفاهم وشراكة وتقدير فيما بينهما، هذه العلاقة لم تَمُت باختفاء الصفويين، هم مجرد مرحلة سياسية، بينما بقيت العلاقة التاريخية والوجدانية بين الجنسين التركي والفارسي وثيقة، وستبقى؛ لأنهما يعتبران أنفسهما جارَين تاريخيًّا، ويعتبرون العرب مجرد متطفلين على المنطقة، بينما التاريخ والجغرافيا يقولان العكس.

اشغلتا إيران وتركيا العرب بالتوتر وشَقِّ الصف والضغط السياسي.

العلاقة الثقافية بين الفرس والأتراك:

لا يمكن وصف التقارب الثقافي والعلمي والإعلامي والزيارات المتبادلة بين الدولتين –التركية والفارسية- على كافة المستويات والأصعدة بأنها مجرد مبادرات فردية بين مؤسسات، بل هي أعمق من ذلك، تغوص عميقًا في التنسيق والترتيب والإعداد والتخطيط، وحتى التنفيذ المشترك؛ لذا يقول الدكتور حيدر عبد الجليل جويد الحربية في كتابه (أثر الاتفاقيات والمعاهدات بين الدولتين العثمانية والفارسية على الجالية الفارسية في العراق: “مرَّت العلاقات بين الدولة العثمانية والأنظمة التي تعاقبت على حكم بلاد فارس بمراحل متعددة من التشنج حتى الصلح والسلام والهدوء”.

اتفاقية مُذِلَّة للعثمانيين مع الفرس:

هذه الاتفاقية لا يمكن وصفها إلا بالمُذِلَّة، فقد أعطت للإيرانيين الذين يعيشون في العراق الذي يخضع للاحتلال العثماني مميزات لم يحصل عليها العرب من السكان الأصليين، لكنها تؤكد كيف ينظر الفرس والعثمانيون الأتراك لبعضهم، وكيف ينظرون للعرب؛ لهذا جامل السلاطين العثمانيون أمثالهم في إيران على حساب العرب كما هي العادة دائمًا، ولعلنا نُورِد هنا هذه الاتفاقية كمثال على ذلك:

في العام (1875) وُقِّعَت معاهدة واتفاق بين الدولتين –العثمانية والفارسية- اعترف فيها العثمانيون بوضع خاص للقناصل والأفراد التابعين للدولة الإيرانية، على أن تشتمل الامتيازات نفسها التي يتمتع بها نظراؤهم الأوروبيون، كما أكَّدَت على سلطة قناصل الدولة القاجارية –الإيرانية- وحدهم على رعايا بلدهم، وفي قضايا القانون المدني والجنائي والميراث، وفي حالة خرق القانون، وكذلك في القضايا المدنية والتجارية المختلطة فإن سلطات معينة من حيث توفير المعونة والحماية في الإجراءات القانونية قد حُفِظت للممثلين القنصليين القاجاريين الإيرانيين، كما ثبَّتَت الاتفاقية إعفاء رعايا الدولة القاجارية من الضرائب التي يخضع لها الرعايا العثمانيون، ومنهم بلا شك العرب أصحاب الأرض في العراق.

لقد كان استعداد العثمانيين لمنح الجالية القاجارية الإيرانية في العراق مثل هذا الوضع الفريد يعكس سيطرة إسطنبول الناقصة على البلاد، ومحاولتها تجنُّب اندلاع حرب محتملة مع بلاد فـارس.

التحالف مستمر ضد العرب.

يقول موقع الحرة في وصفه للتحالف الإيراني التركي: “عارضت إيران وتركيا أي تقارب للدول العربية مع إسرائيل، بزعم الدفاع عن القضية الفلسطينية في العلن، لكن الهدف غير المعلن يبقى تحويل الاهتمام عن إستراتيجية أخرى تخوضها أنقرة وطهران للتوسع والتوغل في البلدان العربية”.

وبالرغم من أن كثيرًا من الدول العربية ليس لديها اهتمام بالتقارب مع إسرائيل، إلا أن تلك التهمة جاهزة لإشغال العرب وتوتيرهم وشق العلاقة مع شعوبه، إنها سياسية مشتركة تركية إيرانية تستخدم “إسرائيل” للضغط على العرب.

  1. عبد الحفيظ محبوب، الدور السعودي في مواجهة النفوذين الإيراني والتركي في المنطقة (لندن: Kutub، 2020).

 

  1. حيدر الحربية، أثر الاتفاقيات والمعاهدات بين الدولتين العثمانية والفارسية على الجالية الفارسية في المدن المقدسة في العراق 1875 -1501، مجلة كلية التربية للعلوم الإنسانية بجامعة ذي قار، بغداد.
تشغيل الفيديو

الدولتان التركية والإيرانية

تشابُه الأهداف والمشروعات السياسية العدائية ضد العرب

كان قيام جمهورية تركيا الحديثة بداية مرحلة جديدة من العلاقات التركية الإيرانية، التي اتَّسَمت بعدم الاستقرار بينهما، وقرَّبَت فيما بعد بينهما بحكم عوامل متعددة، كان على رأسها انشغالهما بمشكلاتهما الداخلية، وطبيعة التحديات والظروف الدولية التي أحاطت بهما، وجاء تولي رضا بهلوي شاهًا لإيران (1925-1941) فاتحة للعلاقات التركية الإيرانية، حيث حاولت حكومة رضا بهلوي الفارسية التقرب من الأتراك؛ لإقامة علاقات جديدة بين البلدَين تطوي صفحة التجاوزات السابقة وتضع أُسُسًا للتعاون المشترك بينهما لتنتهي بذلك السلسلة الطويلة من الحروب والمشكلات الحدودية التي شهدها تاريخ العلاقات بين البلدين إبان العهود السابقة.

ومما يلحظ في تلك العلاقات بين البلدين أن لدى تركيا وإيران دوافع وصراعات وتنافس بشأن مناطق الجوار الجغرافي، وعلى الرغم من وجود عناصر التوتر الكامنة في العلاقات التركية الإيرانية كالطموحات الإقليمية، والتناقض العقائدي، ومسألة الأكراد، إضافة إلى وجود الأصولية الدينية، إلا أن الدولتين لم تعمدا إلى تصعيد خلافهما إلى درجة التصادم والمواجهة العسكرية، لإدراكهما أن نتائج ذلك لن تكون لصالحهما، فضلًا عن ذلك هناك مصالح مشتركة بين البلدين تستلزم الاتفاق المشترك، والعمل على إيجاد أرضية متوازنة استثنائية، إلا أنه لا يصل إلى درجة التفاهم السياسي المشترك.

ومع نهاية الحكم البهلوي ووصول الخميني بثورته (1979) لإيران، ومحاولة تصديره الثورة البائسة لدول الجوار، إلا  أن العلاقات التركية الإيرانية ظَلَّت محافظة على نوع من الاتصال والترابط، على الرغم من اعتقاد بعض المراقبين السياسيين بعد مجيء حكومة سليمان ديميريل إلى الحكم في تركيا في ذات العام لثورة الخميني؛ لأنها تنظر إلى النظام الإيراني الجديد نظرة سلبية، مما قد يؤثر في العلاقات بين البلدين، وعلى العكس تمامًا فإن تركيا أبدَت ارتياحًا من تَدنِّي سمعة إيران في المجال الدولي، لا سيما بعد قطع علاقتها مع العديد من الدول الأوروبية، مما رجَّح الكفة لصالح تركيا لتحقيق مكاسب اقتصادية وتطوير علاقتها مع إيران.

والحقيقة أن تلك الحقبة الماضية في العلاقات التركية الإيرانية  كانت تمهد بصورة مباشرة وغير مباشرة لما تشهده المنطقة العربية في الشرق الأوسط الكثير من الأطماع الخارجية، ويتجلَّى من بينها حاليًّا مشروعان توسعيان واضحَا المعالم؛ الأول هو «المشروع الإيراني» الذي يستند إلى العقيدة المذهبية (الولي الفقيه)، التي وظَّفها الخميني لاختراق الأقليات الشيعية في العالم العربي، واستمالتها واستثمارها كحجر زاوية في هذا المشروع الطائفي التوسعي، خاصة في ظل «التمكين السياسي» المذهبي في بعض الدول العربية بعدُ من خلال أنظمة وأحزاب.

أما الثاني فهو «المشروع التركي» الذي يتبنَّاه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ويُروِّج لإعادة «الخلافة العثمانية»، ويسعى من خلاله لتقديم نفسه كوصي على الطبقة السُّنية في العالم العربي والإسلامي، وبجانب هذه النزعة الثيوقراطية المزيفة للمشروع التركي، أيضًا، له خطاب قومي يُعزِّز النعرة الطورانية لدى الأتراك، ويسعى لاختراق المجتمعات العربية بإثارة النعرة القومية والعرقية لدى المواطنين من أصول تركية، ويسعى لاستمالتهم من خلال عروض تقديم الجنسية لهم، وتأليبهم على أوطانهم؛ لخلق المزيد من الفتن والقلاقل داخل الوطن العربي، ويشترك هذان المشروعان في المتاجرة بقضية احتلال فلسطين وتحرير القدس  كوسيلة لجذب تعاطف الشارع العربي، فكلا المشروعين يهدفان إلى تدمير منطقتنا العربية و عمقنا العربي والإسلامي، الذي تنبَّهت له بعض الدول العربية  وتصدَّت له بكل قوة وحزم.

الفرس والترك يعملون على شَقِّ الصف العربي من الداخل من خلال الأنظمة والأحزاب الموالية لهما.

  1. حسن محمد جوهر وآخر، إيران (القاهرة: دار المعارف، 1961).

 

  1. فيليب روبنس، تركيا والشرق الأوسط، ترجمة: ميخائيل خوري (قبرص: دار قرطبة، 1993).

 

  1. منهل إلهام وآخرون، العلاقات التركية الإيرانية 1923-2003.. دراسة في العلاقات السياسية والاقتصادية (عمّان: دار غيداء للنشر والتوزيع، 2015).