نظام المِلل..

السم الذي تجرَّعه العثمانيون حتى قضى عليهم!!

يُعبرُ نظام المِلَل الذي نظم حياة الأقليات الدينية داخل الدولة العثمانية عن مدى الأزمة السياسية والحاكمية المضطربة، إضافة إلى ازدواج المعايير الذي تبنَّته السلطنة العثمانية عند تعاملها مع المجتمعات العرقية والإثنية التي قُدِّر لها أن تعيش تحت احتلالها أو وصايتها، ولعلنا لا نبالغ حين نقول: إن نظام “الملل” الذي تبنَّته الإمبراطورية العثمانية كان السم الذي تجرعته على مدى قرون، وهو ما فتح الباب واسعًا أمام الأوروبيين لاختراق الدولة العثمانية، والسيطرة من الداخل، حتى قضى عليها في نهاية الأمر.

من المفيد أن نعرِّج على النظام الذي صدر في عهد السلطان محمد الفاتح، وفيه يتمُّ حصر كل أصحاب ملة، ويكون لهم رئيس ديني ينظر في مسائلهم، ويقوم بالحكم في قضايا الأحوال الشخصية الخاصة بهم وفق مِلّتهم دون تدخُّل من الدولة العثمانية، لكن ذلك النظام توسَّع وتمدد، وسُمح من خلاله للملوك الأوروبيين، وخاصة الفرنسيين، بالتدخل في حياة الأقليات – داخل السلطنة- والوصاية عليها، بل وحكمها من باريس، وهو أمر فتَّت السلطنة رويدًا رويدًا.

ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا: إن هذا النظام كان هو السبب المباشر ليس في سقوط الدولة العثمانية لاحقًا، بل في ظهور إسرائيل على حساب الفلسطينيين، وبروز قوة مسيحيِّي جبل لبنان على حساب الأقليات الأخرى.

فقد استقبلت السلطنة العثمانية أكثر من نصف مليون يهودي إثر طردهم من الأندلس، بينما لم تستقبل عربيًّا واحدًا، وسرعان ما تم دمج اليهود وإعطاؤهم التابعية العثمانية، وهو أمرٌ ضمن لهم حقوقًا وامتيازات، وسمح لهم بالتملك في نواحي السلطنة ومنها فلسطين.

هذه الامتيازات الكبيرة أشار إليها “حاييم وايزمان”، أول رئيس لدولة إسرائيل عندما قال: “لقد فتحت الإمبراطورية العثمانية أبوابها لليهود عندما طردوا من إسبانيا، ويجب على اليهود ألا ينسوا ذلك”.

ويقول المستشرق برنارد لويس في كتابه “إستانبول وحضارة الخلافة الإسلامية”: “ازداد عدد اليهود في إستانبول منذ نهاية القرن الـ15 بصورة خاصة؛ إذ جاء الكثيرون منهم من إسبانيا والبرتغال والبلاد الأوروبية الأخرى باحثين عن مكان للّجوء إزاء اضطهاد المسيحيين لهم، إلى حكم السلاطين العثمانيين المتسامح”، ويتابع “تمتع اليهود والمسيحيون على السواء بحرِّية العبادة في إستانبول، في ظل واقع التاريخ الإسلامي والعثماني بهذا الخصوص، ومُنحوا قدرًا كبيرًا من الحرية القومية”.

أما في لبنان فقد أصدر الملك الفرنسي لويس الرابع عشر مرسومًا يقضي بوضع الطائفة المارونية تحت الحماية الفرنسية المباشرة، في الوقت الذي كان فيه لبنان تحت الحكم العثماني.

لم يكتفِ لويس الرابع عشر بامتيازاته التي منحها له السلطان العثماني محمد الرابع، بل سعى لتوسيع الإرساليات المسيحية، وأضاف أربعة بنود جديدة في العام 1673، كانت جميعها تصب في صالح الإرساليات المسيحية الفرنسية، منها البند الأول الذي أعلن “أن جميع الأساقفة أو رجال الطوائف اللاتينية هم من رعايا فرنسا في جميع نواحي الدولة العثمانية من إسطنبول إلى لبنان وحتى الإسكندرية”.

لم يكن قانون المِلل العثماني مجرد تنظيمات إدارية طُبِّقت على المسيحيين الأوروبيين واليهود، بل شرعن الوجود الدولي داخل السلطنة، وتحوَّل من تنظيم العلاقة مع المِلل والنِّحَل إلى حكم ذاتي للمسيحيين واليهود على وجه الخصوص، سيطرت وتحكمت فيه الدول الأوروبية عن بُعد، وتدخلت من خلاله في تفاصيل الحياة اليومية في إسطنبول وبقية المدن العثمانية، لقد امتد حكم الملك الفرنسي لويس الرابع عشر – على سبيل المثال- إلى داخل السلطنة، وأصبح قناصلته ممثلين مباشرين له، يُصدرون الأوامر والتوجيهات، ويَحظَون بتعامل خاص في التجارة والقضاء والسياسة، متجاوزين السلاطين والصدر الأعظم، وبقية الجهاز الإداري العثماني، الذين تحوَّلوا إلى مجرد دُمى بيد القنصليات الأوروبية.