الإخوان المسلمون
خدم في بلاط "الخلافة العثمانية"!
في 3مارس 1924 أصدرت الجمهورية التركية من عاصمتها الجديدة أنقرة، قرارًا بإلغاء ما يسمى تجاوزًا “منصب الخلافة”، وهو المنصب الذي اختطفته تركيا لأربعة قرون، بعدما أسر سليم الأول آخر خليفة عباسي من القاهرة، وأخذه معه إلى إسطنبول، وهناك أجبره على التنازل له عن أعلى منصب سياسي عربي.
وفي 1928 -أي بعد أربعة أعوام من تداعيات سقوط الخلافة وإنشاء الجمهورية التركية مكانها، وانزياح الاحتلال التركي عن البلاد العربية- أعلن حسن البنا تأسيس تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، والذي فسره البنا نفسه بأنه محاولة لاستعادة الخلافة العثمانية، محملًا الجميع تلك المسؤولية.
جاء الإعلان “البنائي” موجهًا للخارج أكثر منه للداخل المصري، فأدبيات الإخوان لم تقم أبدًا على مقاومة الانتداب البريطاني على مصر، بل لإعادة إنتاج الاحتلال التركي العثماني للبلاد العربية مرة أخرى، لقد آمن حسن البنا بأن مسؤوليته ليست لوطنه المصري، بل تجاه بلاد وأناس لا يمت لهم بصلة، وعلى هذا تأسست العقيدة السياسية والتنظيمية الإخوانية، والتي لا يزال العالم العربي يدفع ثمنها لليوم.
لا شك أن العلاقة بين الإخوان المسلمين كتنظيم منذ تأسيسه وإلى اليوم قائمة على خدمة المشروع العثماني وإعادة إنتاجه مهما كلف الأمر، ولعل الدماء التي سالت والانقلابات التي حدثت فيما يقرب من مئة عام، بدعم أو بمشاركة أو بمؤامرات من الإخوان، خير شاهد على ذلك.
لقد عمل الإخوان بضراوة داخل العالم العربي -اجتماعيًّا ودينيًّا وتعليميًّا وتنظيميًّا- وحملوا العرب وزر سقوط “الدولة العثمانية” بالرغم من أن دولة بني عثمان كانت تسقط بسبب قانون الامتيازات الذي سمح للأوربيين بقضم الدولة، وكذلك بسبب الخلافات بين الأتراك أنفسهم والصراع على العروش الذي بدأ منذ تأسيس دولتهم حتى سقوطها.
ومن أجل إعادة مشروع الخلافة العثمانية وظف حسن البنا المناخ السياسي الذي كان سائدًا في مصر والصراعات الحزبية وتدخل المندوب والجيش الإنجليزي في الحياة العامة للنفاذ إلى أعماق الشعب المصري، منشئًا قاعدة صلبة لا تؤمن إلا بأدبيات جماعته، منخرطة في أهدافها، وسابحة في رومنسياتها من أجل استعادة لقب “الخليفة العثماني”، وما فعله في مصر نشره في العالم العربي أجمع.
الغريب أن حسن البنا لم يسع لاستعادة الخلافة العباسية ولا الأموية اللتين تفوقتا على نظام الحكم العثماني، وكانا أقرب إلى الحكم الرشيد، فلم يكن الحكم العثماني سوى احتلال شعوبي عنصري بواجهة إسلامية، والغريب أيضًا أن البنا لم يفكر في إنشاء خلافة مركزها القاهرة كما كانت أيام الفترة العباسية الثانية تحت راية المماليك، فبماذا يختلف الملك المصري من أصول ألبانية عن السلطان العثماني من أصول تركستانية أو مغولية؟
لم يكن حسن البنا القادم من قاع المجتمع المصري أديبًا ولا مفكرًا، بل شاب متمرد متحمس استطاع الاعتماد على أدبيات صادف وجودها انطلاق تمرده على الحكم الملكي المصري، ولا نبالغ إذا قلنا: إن كتاب الخلافة لـ “محمد رشيد رضا” أسس لديه فكرة الخلافة، وملهمه في النظر إلى أن استعادة الخلافة العثمانية ستمنحه المنصة التي يستطيع من خلالها تنفيذ مخططاته وأجندات مشغليه، مشيرين إلى علاقته الملتبسة مع المكتب السري الإنجليزي الذي كان يعمل في القاهرة خلال الانتداب البريطاني على مصر.
وبالرغم من أن كتاب الخلافة لمحمد رضا يوصف بأنه رسالةً خفية لـ”الباب العالي” وضع فيها “رشيد” حلمه لاستعادة الخلافة، ويُبين فيها نظام الخلافة وأصولها وأحكامها، وشروط الخليفة وطُرق تَولِّيه وأشكال البَيعة والشورى وغيرها، فإنه ضمنه أيضًا نقدًا لما وصف بمفاسد نظام السلطان عبد الحميد وما وصلت إليه أوضاع “الخلافة” تحت سيطرته.
حسن البنا أغفل ذلك واعتبر الخلافة العثمانية منزهة من كل سوء وعمل على تنظيفها من الطوام التي ارتكبتها وحرف الناس عنها، وغرس رومانسيتها الحالمة المزورة في وجدان العرب، ولا يزال ورثته في التنظيم يمارسون نفس آلية التزوير إلى يومنا الحاضر.
وإذا كان من وصف يمكن أن يُطلق على حسن البنا وتنظيمه والعلاقة الملتبسة بينهم وبين العثمانيين، فهو أن الأتراك لن يجدوا خدمًا تفانوا في خدمة المشروع العثماني كما الإخوان أبدًا، ولن يجد أي منصف مبررًا لهم، فالخلافة كمنصب سياسي “عربي إسلامي” ولم يجرؤ أحد على اختطافه إلا العثمانيون، ومع تخادم الإخوان معهم لسرقته من جديد ووضعه على كرسي السلطان في إسطنبول.