صناعة الأسطورة

أبو مسلم الخراساني والقومية الفارسية

يعتبر أبو مسلم الخراساني من الشخصيات المهمة في تاريخ الدولة العباسية، وتتَّسم سيرته بالكثير من الغرابة والإثارة حتى بعد مقتله، ينتمي أبو مسلم في الأصل إلى طائفة “الموالي”، وهم أبناء الفرس الذين دخلوا في كنف العرب بعد الفتح العربي لبلاد فارس، ومع انضمامه إلى الدعوة العباسية انتقلت إلى طَور جديد من مجرد دعوة دينية للرضا من آل البيت، وأحقيَّتهم في الخلافة، إلى حركة عسكرية من أجل تحقيق أهداف الدعوة، ويضع أحمد أمين أبا مسلم الخراساني ضمن العوامل المهمة وراء سقوط الدولة الأموية، وقيام الدولة العباسية، ويصفه قائلًا: “نجح -أبو مسلم الخراساني- نجاحًا باهرًا في الثورة على الأمويين، والدعوة للعباسيين، فاستطاع بذلك أن ينتقم من العرب”.

وكانت منطقة خراسان هي قاعدة الأساس والانطلاق لأبي مسلم نحو هدفه في إسقاط الدولة الأموية، ويرجع البعض ذلك إلى كونه فارسيًّا حاقدًا، خاصة أن أهل خراسان من أشد الحاقدين على العرب الفاتحين؛ إذ لم يَنسَ الفرس قطُّ مجدَهم القديم، وتجبُّرهم على العرب قبل الإسلام، كما لم يغفر الفرس للدولة الأموية أنها قامت أساسًا على العنصر العربي، وأنها لم تُقَرِّب العنصر الفارسي إلى دوائر الحكم.

من هنا ساند الفرس الدعوة العباسية، وعملوا من خلالها جديًّا على التخلص من النفوذ العربي، لتكون لهم السيادة والسلطان في الدولة الجديدة.. الدولة العباسية.

ويشير البعض إلى أن المهمة الأساسية التي عُهِد بها إلى أبي مسلم في خراسان كانت “إن قدرت ألا تُبقِي بخراسان مَن يتكلم بالعربية فافعل”، كما كان المبدأ الأساسي أيضًا الذي اتبعه أبو مسلم في تحركه العسكري في خراسان “اقتل مَن شَكَكت فيه”، لهذا يصِف البعض أبا مسلم بأنه “لم يكن يتأخَّر لحظة في قتل من دخله أقل ريب فيه حتى وصل إلى غرضه… وقد أُحصِي من قتله أبو مسلم فكان ستمائة ألف”.

كما تم اللعب على الثقافة والعقيدة الفارسية القديمة؛ من تبجيل الحاكم وأسرته، وأن الحكم منحة إلهية يمنحها الله وراثية في أسرة الحاكم، وبالتالي تم الترويج أن الخلافة في آل البيت، وأن الأمويين ما هم إلا مغتصبين لها، وأن الخروج عليهم مشروع للعودة للقاعدة الأساسية أن الخلافة في آل البيت.

وبالفعل استطاع أبو مسلم الخراساني هزيمة كل عمال بني أمية على خراسان، وأن تصبح خراسان وأهل خراسان هم عصب نجاح الدعوة، وقيام الدولة العباسية، ولا أدَلَّ على نفوذ أبي مسلم الخراساني بعد قيام الدولة العباسية من تسرُّب الشك إلى الخليفة العباسي أبي العباس السفاح تجاه أبي سلمة حفص بن سليمان، الذي كان يوصف بأنه “وزير آل محمد”، وهنا لم يجرؤ أبو العباس على قتل أبي سلمة إلا بعد التشاور مع أبي مسلم، والأكثر من ذلك أن الخليفة أرسل أخاه أبا جعفر المنصور إلى خراسان لعرض الأمر على أبي مسلم، ووافق الأخير على الأمر، بل وتعهد بتنفيذ ذلك.

ومن مظاهر ازدياد نفوذ أبي مسلم الخراساني وتغوُّله على سلطات رجال الدولة، بما فيهم الأسرة العباسية نفسها، ما حدث أثناء رحلة الحج التي قام بها أبو مسلم؛ إذ أمر الخليفة أبو العباس بأن يكون أبو جعفر المنصور هو المسؤول عن قافلة الحج في ذلك العام، حتى يَحُدُّ من نفوذ أبي مسلم، في محاولة لتأكيد الأمر أمام الرأي العام بقوة الدولة العباسية، لكن أبا مسلم الخراساني الذي وصل به غرور السلطة والترف حدَّه، كان يُجزِل العطاء والإحسان على طول الطريق للناس، بأكثر مما فعله أبو جعفر المنصور، مما أثار غضب الأخير عليه، عندما أدرك مدى تعاظُم نفوذ أبو مسلم الخراساني وشدة غروره، من هنا عقد العزم على التخلُّص منه في أقرب وقت.

ومع صعود أبي جعفر المنصور إلى عرش الخلافة بعد وفاة أبي العباس السفاح، حانت الفرصة للمنصور للتخلص من أبي مسلم الخراساني، الذي أصبح نفوذه يُشكِّل خطرًا على الخلافة، وخاصة مع تحوُّله إلى رمز للمكون الفارسي في الدولة العباسية.

وجاءت الفرصة عندما طالب المنصور أبا مسلم بتسديد حق الدولة في الغنائم، بعد نجاح أبي مسلم في قمع ثورة على المنصور، ويشير البعض إلى قيام المنصور بإرسال مراقب من طرفه للنظر في الغنائم، كان يقصد في حقيقة الأمر “أن يؤكد سلطته كأمير للمؤمنين على أبي مسلم الخراساني، حتى في لحظة حقَّق فيها هذا الأخير نصرًا كبيرًا باسمه بالذات، وأدرك أبو مسلم مغزى هذا التدبير كل الإدراك، وأعرب عن اعتراضه”.

من هنا عاد أبو مسلم إلى خراسان قاعدته الأساسية، لكن المنصور استخدم كل وسيلة لإقناع أبي مسلم للخروج من خراسان والمجيء إلى العراق لمقابلته، وبالفعل نجح في ذلك، وهنا أصدر المنصور قراره بإعدام أبي مسلم؛ لأنه أصبح يشكِّل خطرًا على الدولة العباسية وعلى الخليفة نفسه.

والأمر المثير هو تحوُّل أبي مسلم إلى رمز من رموز القومية الفارسية المتطرفة، وربما يظهر ذلك جليًّا من خلال تتبُّعِنا لنشأة فرقة الراوندية في زمن الدولة العباسية، ويصنِّف معظم المؤرخين المسلمين هذه الفِرقة ضمن “الفِرَق الضالة”، وهم يُنسَبون إلى مكان بالقرب من أصفهان، وتؤمن هذه الفِرقة الفارسية بتناسخ الأرواح، ويَدَّعي هؤلاء أن روح الإله قد حلَّت في جسد أبي مسلم الخراساني، وأن الأخير هو “صاحب دولة بني العباس”.

وفي الفكر الفارسي الحديث عاد أبو مسلم الخراساني ليصبح رمزًا للتيار القومي المتطرف؛ إذ يضعه بعض أدباء ومفكري هذا التيار في مكانة علية رفيعة، حتى إنهم يضعونه في مرتبة أعلى من كل خلفاء بني أمية، بل وأيضًا أعلى من كل خلفاء بني العباس، وشبَّهه بعض أدباء إيران بالإسكندر الأكبر، وقالوا: إنه كما يوجد لدى اليونان الإسكندر الأكبر، يوجد أبا مسلم الخراساني لدى الفرس، بل وتساءل بعض هؤلاء الأدباء: لماذا لم يجلس أبو مسلم نفسه على كرسي الخلافة؟ ورأوا أن ذلك يعود إلى فكر وعقيدة ذلك الزمان؛ أن “الخلافة في قريش”، بينما كان الأجدر أن يكون الخليفة هو أبو مسلم ذاته.

هكذا كان أبو مسلم شخصًا مثيرًا للجدل في حياته ومماته، وهكذا أيضًا تحوَّل إلى رمز للتيار الفارسي المتطرف.

صنعوا منه رمزًا للقومية الفارسية المتطرفة ضد العرب.

  1. أحمد أمين، هارون الرشيد (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2017).

 

  1. حسين المصري، صلات بين العرب والفرس والترك، دراسة تاريخية أدبية (القاهرة: الدار الثقافية للنشر، 2001).

 

  1. محمد الخضري، محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية.. الدولة العباسية (بيروت: دار القلم، 1986).

 

  1. محمد شعبان، الدولة العباسية (بيروت: الأهلية، 1981).

 

  1. محمد عنان، تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة في المشرق (القاهرة: مؤسسة المختار، 1991).