العثمانيون الجدد .. لن تزيفوا التاريخ
ولن تعيدوا سرقة جسد النبي صلى الله عليه وسلم!!
عندما هاجر الأتراك الأوائل من أواسط آسيا المقفرة في بدايات القرن الحادي عشر إلى الإقليم العربي ليستقروا في الأناضول، وجدوا أنفسهم قد تقطعت بهم السبل، وأصبح صعبًا عليهم إعادة التواصل مع جذورهم المقفرة، ليتحولوا إلى أمة يتيمة منقطعة عن جذورها وتاريخها وثقافتها.
كان لابد للأتراك الإيغوريين من بناء هوية جديدة منفصلة عن جذرها الحقيقي، خاصة مع تعثرهم في الاندماج مع محيطهم العربي، ولم يجد الأتراك طريقًا لذلك إلا بتزوير هوية جديدة لهم.
أدرك تزييفهم كل شيء، وأعاد رسم كل ما أدركته أيديهم، تمت كتابة التاريخ على المقاس التركي، وتجميل المرحلة العثمانية على الرغم من كل جرائمها، تحويل السلاطين إلى أيقونات وتزييف واقعهم المخزي وطريقة حكمهم التي قامت في أسسها على العقوق وقتل الأبناء والإخوان والاغتيالات المنظمة، كانت الدراما التركية هي عمود ذلك التزييف الهائل، حين صورت سلاطين بني عثمان وقاربتهم إلى درجة تصويرهم أقرب ما يكونوا كآلهة أو أنبياء، اختلقوا المعجزات وبنوا الأمجاد.
الأحزاب الإسلاموية تتشارك مع العثمانيين الجدد في تلك الجريمة، عندما ساعدوهم في تغييب العقل العربي والإسلامي من أجل خدمة المشروع العثماني، وإعادة بناء خلافتهم المزعومة، لقد بلغ الكذب والتدليس حد قلب الحقائق المثبتة القطعية، مثل بيع فلسطين التي قام بها السلطان عبد الحميد لصالح الحركة الصهيونية، ومحاولة إلصاق الجريمة بأبرياء ليس لهم علاقة، أو الجرائم في حق الأرمن أو العرب في الجزيرة العربية، ومصر وليبيا والشام.
لقد تحول العثمانيون الجدد أو القدماء إلى عالة على الأمم، زيفوا تاريخهم، وسرقوا هوية ليست لهم وآثارا لم يبنوها، لقد روج الأتراك أمجادهم على امتصاص خيرات الأمم التي احتلوها، ولتكون تركيا إمبراطورية متقدمة، كان لابد من القضاء على كل منافس في محيطها، لذلك لم تكن سرقة التاريخ حالة عابرة في السياسة التركية، ولم تكن أبدا أخطاء فردية، بل هي عمل ممنهج، يتم تغطيته بالدعاية والقولبة للأذهان، وتقضي تلك السياسة بسرقة كل مفيد لصالح “الغول التركي”، الذي لا يستطيع أن يعيش إلا على اكتاف الأمم الأخرى.
ولردم الهوة الحضارية بين العثمانيين والأمم المحيطة بها فترة احتلالهم للعالم العربي، قام العثمانيون بترحيل كل المهندسين والعمال المهرة والفنيين المبتكرين، والطهاة المتميزين من الشام ومصر والعراق، ليبنوا لهم قصورهم وبيوتهم ويهندسوا شوارعهم وسدودهم، حتى مطابخهم التي يفاخرون بها.
إلا أن أعظم جريمة سرقة ارتكبها الأتراك العثمانيون لا يمكن تجاوزها أو التغافل عنها، كانت بلا شك محاولتهم سرقة الجسد الطاهر للنبي محمد صلى الله عليه وسلم من مرقده في المدينة المنورة، وهو ما أثبتته بعض وثائق البعثة الفرنسية في مصر، إذ أشارت في مراسلاتها إلى أن فخري باشا – حاكم المدينة المنورة من العام 1914م وحتى العام 1919م ، قد حاول سرقة الجسد النبوي إضافة إلى نهب النفائس النبوية التي ضمها المسجد.
هذه الوثيقة الفرنسية السرية البالغة الأهمية، والمؤرخة في 13 من يونيو 1917م، كان قد أرسلها وزیر فرنسا في القاهرة إلى وزارة خارجيته في باريس، متضمنةً معلومات وصلت إليه، تشير إلى نية فخري باشا نبش قبر الرسول، وجاءت تفاصيل السرقة الفاشلة، أن مهندساً – مصريًّا – لاذ بالفرار من المدينة بعد خشيته من تنفيذ أمر فخري باشا بتعديل منارات المسجد النبوي وتجهيزها بالمدافع، وليس هذا فحسب، بل إن الجريمة امتدت إلى الجسد الطاهر جسد النبي صلى الله عليه وسلم، عندما أصدر فخري باشا أمره للمهندس المصري بنبش قبر الرسول لسرقته ونقله إلى إسطنبول، مسوغًا ذلك بقوله: إنه يريد التأكد من وجود الجسد الشريف.
الوثيقة الفرنسية لم تكن الوحيدة التي أشارت إلى محاولة السرقة تلك، بل إن مصدرا محليًّا وهو جريدة القبلة التي تصدر من مكة المكرمة نشرت في عددها الـ86 المؤرخ في 21 شعبان 1335هـ، تعد إثباتًا آخر يتفق مع الوثيقة الفرنسية في تأكيد تجاوزات العثمانيين وسرقاتهم الآثار النبوية ومحاولتهم الاستيلاء على جسد النبي صلى الله عليه وسلم ونقله إلى تركيا.
استمرت سرقات العثمانيين للآثار والنفائس النبوية في خلال الفترة بين 1916 حتى عام 1919م، وعندما حانت الفرصة في العام 1917م امر فخري باشا جنوده بنقل نفائس الحجرة النبوية وهي هدايا ثمينة جدًّا لا تقدر بثمن، أهديت للحجرة النبوية والمسجد النبوي منذ الخلافة وورثها الأتراك كما ورثتها دول من قبلهم، لكن أحدا لم يتجرأ على سرقتها إلا العثمانيون.
احتوت النفائس على متعلقات النبي الشخصية – بردته ونعله وبعض شعيراته ومكحلته وقارورة طيبه – ومقتنيات أخرى لزوجاته، إضافة إلى قناديل ومصاحف نادرة وقلائد ذهبية وشمعدانات ومجوهرات، وتم نقل المحتويات على متن القطار العثماني الذي مدت له السكة الحديد إلى داخل الحرم ليستطيع نقل المقتنيات.
تشير الإحصاءات التركية نفسها إلى أن عدد القطع المسروقة يفوق 2320 قطعة بحسب جداول التقرير العثماني عام 1908م، تلك الكمية الكبيرة من المنهوبات لا تتعلق بالعهد النبوي فقط، بل حتى الدول الإسلامية السابقة الأموية والعباسية والمملوكية، إضافة إلى سرقة أجزاء من الكعبة المشرفة – وقطع ثمينة من الحجر الأسود – ووضعها على الأضرحة وفي القصور، وليتحول متحف “طوب قابي”، أحد أكبر القصور في مدينة إسطنبول إلى متحف عملاق ومزار سياحي تعرض فيه النفائس النبوية، إضافة إلى عشرات الآلاف من القطع الأثرية الأخرى.
السرقات التركية لم تتوقف على الآثار النبوية، بل امتدت لتسرق التاريخ والخلافة الإسلامية العباسية من عاصمتها الثانية “القاهرة”، عندما انطلقت جيوش السلطان سليم الأول من أواسط الأناضول ولم تتوقف إلا في القاهرة مسقطة الخلافة العباسية وحاضنتها دولة المماليك، ليقوم سليم الأول بالسطو على منصب الخليفة ويقتل آخر الخلفاء العباسيين بعد إجباره على التنازل لصالحه، مؤكدًا على أن هذه هي سياسة الأتراك المستعمرين المستمرة، يعيشون كإمبراطورية ولكن بثقافة اللصوص والسراق وشذاذ الآفاق.