التاريخ الآخر للسلطان محمد الفاتح

مسألة قتل الإخوة

في تاريخ بعض الدول والعصور، هناك بعض الموضوعات المشينة والتي حاول بعض معاصريها التبرير لها، وحتى إيجاد مبرر شرعي أو قانوني لها، لكن حكم التاريخ كان دائمًا قاسيًا في هذا الشأن.

من أخطر هذه الأمور في تاريخ الدولة العثمانية، مسألة قتل الإخوة بل والأشقاء من جانب بعض السلاطين. ويكاد يُجمع المؤرخون على أن هذا الأمر على وجه الخصوص هو أسوأ مثال على الوحشية والقيام بمذبحة من أجل الحفاظ على الحكم وكرسي السلطنة.

والمثير أن يتم تقنين هذا الأمر البشع على يد السلطان محمد الثاني، الذي عُرف بمحمد الفاتح بعد سقوط القسطنطينية؛ إذ تذكر المصادر التاريخية النص على ذلك ضمن القوانين المنسوبة لمحمد الثاني: “إذا تيسرت السلطنة لأي ولد من أولادي فيكون مناسبًا قتل إخوته في سبيل تأسيس نظام العالم، وقد أجاز هذا معظم العلماء فيجب العمل به”!!

هكذا يتم تقنين هذا الأمر الوحشي البشع، وسن قانون مُلزِم به، بل والنص على إجازته من علماء الدين، علماء السلطان. والأمر الغريب أن يصدر هذا القانون على يد السلطان محمد الثاني “الفاتح”، الذي حاولت بعض المصادر التاريخية التركية الترويج له بأنه “الأمير المُبشَّر”، أي الأمير الذي بشر به الحديث النبوي عن فتح القسطنطينية، وأن خير أمير أميرها، وخير الجيوش هو الجيش الفاتح، فكيف يتوافق أمر وضع هالات القداسة على رأس السلطان محمد الفاتح، مع تقنينه لهذه العادة القبيحة، وهي جواز قتل الإخوة بل والأشقاء؟!

حاول بعض المؤرخين الأتراك إيجاد مبرر وتخريجة شرعية من الفقه الإسلامي لهذا الفعل القبيح والمشين؛ إذ رأى هؤلاء أن هذا القانون المعيب في حد ذاته، أي قانون قتل الإخوة، ما هو إلا تطبيقًا لإقامة حد البغي المنصوص عليه في الفقه الإسلامي، أي حد العصيان ضد الدولة. وأكد هؤلاء وجهة نظرهم من خلال أن جريمة العصيان ضد الدولة تندرج ضمن عقوبات الحدود في الإسلام تحت عنوان “حد البغي”، وأن عقوبة جريمة العصيان ضد الدولة، هي إقامة حد البغي أي الإعدام.

والأخطر من ذلك أن بعض علماء السلطان للأسف الشديد فتحوا الباب على مصراعيه في تبرير مسألة قتل الإخوة وفقًا لحد البغي، بل وتجاوزوا ذلك إلى الإفتاء بأمر أخطر وهو التعزير بالقتل، والمعروف بالقتل سياسة؛ إذ رأى هؤلاء أن الشرع الشريف نص على ضرورة توافر عناصر وشروط جريمة البغي، حتى يتم تطبيق هذا الحد وهو الإعدام. لذلك لجأ هؤلاء إلى تخريجة أخرى وهي أنه في حالة عدم توفر جميع عناصر وشروط البغي، يجوز قيام أولو الأمر بتعزير المتهمين بأفعال الشغب بعقوبة القتل، إن اقتضت ذلك المصلحة العامة ونظام العالم. وهكذا تم فتح الباب على مصراعيه في مسألة قتل الإخوة، وترك تقدير الأمر في يد السلطان، الذي أصبح بيده قتل إخوته، بل وحتى أشقائه درءًا للفتنة، والمصلحة العامة، ومن أجل الحفاظ على نظام العالم!

والحق أن هذا القانون على وجه الخصوص، قانون “قتل الإخوة”، كان من أسوأ عورات الدولة العثمانية، ونستطيع القول أنه في حقيقة الأمر لم يكن في صالح سلام واستقرار الدولة، أو درءًا للفتنة، فتحت غطاء من هذا القانون تم قتل الإخوة حتى الرُضَّع منهم، ويتساءل المرء: ما هو الخطر الذي يمثله هذا الرضيع على المصلحة العامة ونظام العالم؟!

ورغم تبرير بعض المؤرخين لقانون قتل الإخوة الذي أصدره محمد الثاني بأنه يتوافق مع الشريعة، إلا أنهم في نهاية الأمر يعترفون أن التطبيق العملي لهذا القانون كان مخالفًا للشرع الشريف: “إن حد البغي أُقيم في بعض الأحيان دون أن تتحقق وتتوافر جميع عناصر وشروط جريمة البغي ويرجع ذلك إلى تدخل بعض المخبرين والشهود الكاذبين، وقيام بعض شيوخ الإسلام بإعطاء الفتاوى وكأن جريمة البغي قد استوفت شروطها”.

ولم يقتصر الأمر على مسألة قتل الإخوة، بل تعداه إلى مسألة أبشع وهي قتل الأبناء! وتعتبر حالة السلطان سليمان القانوني أسوأ مثال في هذا الشأن؛ إذ لم يكن هناك من سلطان منافس له، فلم يحدث في عهده قتل الأشقاء، غير أن القانوني أصدر أوامره بإعدام ابنه الأمير مصطفى، وذلك بتحريض من زوجته خرم سلطان، بعدما أقنعت القانوني بأن ابنه يسعى للانقلاب عليه، والجلوس مكانه على العرش. وللأسف قام سليمان القانوني بإعدام ابنه مستغلاً هذه المرة مسألة حد البغي.

هكذا يتبين بشاعة هذا القانون المعيب الذي أصدره السلطان محمد الفاتح، والعوار الفقهي المحيط به، وخاصةً فيما يتعلق بمسألة حد البغي، والأسوأ من ذلك هو توسع العلماء في إصدار فتاوى الإعدام دون توافر عناصر وشروط حد البغي.